الملاك.. ياسر رزق (1)

Read Time:6 Minute, 25 Second

محمد صلاح الزهار يكتب : *

” أولئك وهؤلاء وانا .. ناس فى المشوار ”

رأيته للمرة الأولي قبل ما يقرب من أربعين عام.. كنا نخطو خطواتنا الأولي في عالم الصحافة بدار أخبار اليوم، التي كانت، أكاديمية وجامعة وبيت عائلة.

أكاديمية وجامعة، ندرس فيها ونتعلم، كيف نصبح صحفيين متمرسين، وقتما كانت تلك المهنة أملا وغاية وطموح لكثيرين من الشباب.

أخبار اليوم.. أيضا كانت بيت عيلة، تحكم العلاقات بداخله أسس ذات التقاليد التي تسود غالبية البيوت المصرية العريقة، الصغير عليه واجب احترام وتقدير الكبير، والكبير يدرك أن مسئوليته الأولي هي الأخذ بإيدي الصغير، بتلقينه وتعليمه بكل أسس ممارسة المهنة، كي تتناقل الخبرات عبر الأجيال، ليظل صرح أخبار اليوم عاليا في عالم الصحافة، ومن هنا كانت الحياة داخل دار أخبار اليوم متعة لم تكن تدانيها أو تماثلها متعة أخري.

بصحبة والده، عم فتحي رزق، دخل ياسر فتحي رزق الى صالة قسم الحوادث والقضايا، بالدور الثامن بالمبني الصحفي الجديد، وهو المبني الثاني من حيث النشأة في ترتيب مباني دار أخبار اليوم، وكان يسبقه في النشأة مبني أخبار اليوم ” القديم أو الرئيس”.

” عم فتحي رزق” .. كان هو الكاتب الصحفي الكبير فتحي رزق، صاحب الخبطات الصحفية البارزة التي سجلها وصنعها كمراسل حربي لصحف دار أخبار اليوم خلال سنوات حروب يونيو 1967 والاستنزاف (1967 – 1970)، وحرب أكتوبر عام 1973، وصاحب العديد من المؤلفات التاريخية والأدبية، في الوقت ذاته كان فتحي رزق نقابيا متفاعلا مع قضايا المهنة وعضوا بارزا لعدة دورات في مجلس نقابة الصحفيين في تلك الأونة، ولم يكن وصف الكاتب الصحفي الكبير فتحي رزق بالعم، تقليلا من قدره ومن شأنه ككاتب كبير وبارز، ولكنه كان لفظا يجسد علاقة الحب والاحترام والتقدير لأساتذتنا الكبار في أخبار اليوم في تلك الفترة.

ياسر فتحي رزق، وقتها، كان لا يزال طالبا بالسنة قبل النهائية بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وكان نحيلا بشكل ملحوظ، ويحمل على كتفه حقيبة (كروس كما يطلق عليها الأن).

دخل عم فتحي وبصحبته ياسر، صالة قسم الحوادث والقضايا، وتوقف وسط الصالة، بالقرب من مكتب عم ” زعزع ” الذي كان هو الأستاذ محمد زعزع رئيس قسم الحوادث والقضايا وأحد مؤسسي صحافي الحوادث في مصر خلال النصف الأخير من القرن الماضي، وضع “عم فتحي” يده على كتف ياسر وهو يدفعه برفق للأمام وبينما كان ينظر الى عم زعزع، نظر الينا جميعا قال: ياسر اهو.. انا جبته يتدرب معاكوا .. خدوا بالكم منه.. انا مشا هاقول أكتر من كده، أنا عارف انتوا مش محتاجين توصية.. وانصرف عم فتحي مغادرا المكان.

ورغم ضألة جسمه وهدؤه اللافت، ومنذ اللحظة الأولي بدت علي ياسر فتحي رزق أمارات التميز المتعددة، تكشف إنه صحفي متمكن رغم صغر سنه، مقارنة بنا الذين كنا قد سبقناه بسنوات قليلة في التدرب بأخبار اليوم، كان يملك ثقافة موسوعية هائلة في غالبية المعارف والمعلومات المنوعة في كل المجالات، ومنذ اللحظة الأولي عند اللقاء بياسر رزق تدرك أو تشعر إنك تعرفه منذ زمن وان بينكما صداقة عميقة، فكان ودودا رقيقا مجاملا، يملك قلبا مرهفا ووجها مريحا ونفسا صافية، وكان يملك نزعة سخرية لاذعة تجعل الابتسامة وربما الضحكة وأحيانا القهقة، هي الغالبة علي أي حوار يكون طرفا فيه.

البراءة التي تصل لحد المثالية كانت صفة أخري تضاف لكم الصفات المميزة التي كان يملكها ياسر فتحي رزق.

***

على المستوي المهني، كان ياسر فتحي رزق متفانيا لأقصى درجة، يظل يعمل طوال الوقت، وبلا أي كلل او ملل، وبلا أي تحسبات لارتباطات عائلية أو شخصية، وكان عندما يكلف بأي عمل أو مهمة، ينسي كل شيىء في الدنيا الا ما هو مكلف بإنجازه، وفى الكثير من الأحيان كان يظل يعمل الى الي ساعات متأخرة من الليل الى الحد الذي يغلبه النعاس ويضع رأسه على المكتب الذى يجلس عليه، ويغادر الجريدة في ساعات متأخرة من الليل، ليكمل نعاسه في سيارة أخبار اليوم التي كانت تتوجه بنا الى منازلنا عندما تنتهي نوبات عملنا، عقب إصدار الطبعات المتتالية من الجريدة، وكان المشهد الطريف يتكرر في كل مرة عندما كنا نتشارك في ركوب سيارة المؤسسة، عندما نصل الى اسف العقار الذى كان يقيم فيه، نوقظه برفق ونستغرق عدة دقائق إلي أن ينتبه ويستيفظ مبتسما كعادته، ويقول : ايه احنا وصلنا؟ .. نقول له أيوه وصلنا.. ونسلمه أوراقه وحقيبته وادواته التي كانت موضوعة على مكتبه، ونغادر على أمل اللقاء في اليوم التالي.

الانغماس التام فيما يفعل كان سمة إضافية يتسم بها ياسر، الى الحد الذي كان في غالبية الأحيان، ينسي فيه أن يتناول طعامه، وباتت طرفة معروفة لنا جميعا في صالة تحرير الأخبار، عندما كنا نلاحظ وجود لفافة طعام على أحد مكاتب صالة التحرير، وكلنا كان يعرف أن هذه اللفافة تحوي طعام الغذاء أو العشاء الذي طلبه ياسر فتحي رزق، ولم يتناوله أو تناول القليل جدا منه، وغالبيتنا كان يكمل التهام الطعام، بعدما نذكر ياسر بذلك الطعام الذي تركه، أو بالأحري نسي أن يتناوله، فكان بكل كرم وشهامة يدعو محاوره الى تناول الطعام أو الكم الكبير الذى تبقي بعدما تناول ياسر القليل منه.

وسبحان الله ولا حول ولا قوة الا بالله، فقد أراد المولي عز وجل أن يضع ياسر فتحي في اختبار إنساني قاسي، فقد رحل والده ” عم فتحي رزق” بينما كان يصحب ياسر متجهين من القاهرة الى منزل الأسرة بمدينة الإسماعيلية، وشاء قدر ياسر أن يلفظ والده أنفاسه الأخيرة وهو بين يديه.

كلنا اشفقنا وساورنا القلق الشديد على ياسر عقب رحيل والده عمنا فتحي رزق، كنا نخشي على ياسر، رقيق الحال صاحب الجسد النحيل والنفس الصافية، ولكنه وبما ورثه عن العم فتحي، وبإيمان راسخ بالله تجاوز احزانه وعاد أدراجه بسرعة لافتة، ليكمل مسيرة عمله في جريدة الأخبار.

***

أسابيع وربما أشهر قليلة، برزت قدرات وإمكانات ياسر رزق الصحفية في مختلف فنون المهنة، وذاع صيته كصاحب كفاءات متعددة بين أروقة جريدة الأخبار بدار أخبار اليوم، وتقرر بسرعة لافتة نقله الى القسم العسكري، وفى نفس الوقت تم تكليفه بالعمل بقسم الدسك المركزي للجريدة، والدسك لمن لا يعرف هو المطبخ الذي يتم بداخله تجهيز كافة المواد المقدمة للنشر (الأخبار والتحقيقات والتقارير الصحفية) حيث كان يتم إعادة صياغتها.. وإضافة الى إمكاناته الصحفية البارزة كباحث عن الخبر، وصاحب الرؤي النقدية لمختلف القضايا المطروحة على الساحة، والمتمكن من وضع التصورات والمقترحات للتناول الصحفي لكل ما كان يدور حوله في مختلف المجالات، إضافة الى كل هذه الميزات، كان ياسر موهوبا ومتمكنا بشكل لافت ومتميز جدا في إعادة صياغة الأخبار والموضوعات والتحقيقات الصحفية، وكان متمكنا كذلك من كتابة مانشتات الجريدة وعناوين الصفحة الأولي لجريدة الأخبار.

وبات ياسر فتحي رزق ” أيقونة ” جيل شباب الصحفيين بأخبار اليوم الذين استهلوا مسيرتهم في مهنة البحث عن المتاعب في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.

ورغم أن الغالبية العظمي منا، نحن أبناء هذا الجيل، نملك مواهب وقدرات صحفية لافته، الا أن ياسر كان أبرزنا وأكفأنا جميعا، ورغم التنافس الطبيعي المفترض حدوثه بين شباب من نفس الجيل أو المرحلة السنية، إلا إننا جميعا كنا تفخر، ولا زلنا نفخر، بأن ياسر فتحي رزق هو ” أيقونة ” جيلنا وأبرز ما فينا.

على الجانب الأخر، لم يصب ياسر بالغرور او التميز والاختلاف عنا باقي أبناء جيله، كان على عهده، ومنذ اليوم الأول لتعارفنا، كان إنسانا بكل المعاني والصفات المثالية، وكان مع الجميع بذات القلب المفتوح والنفس الصافية، والبراءة التي تقترب من المثالية.

وبعد مرور عشرات السنين، ظللنا على حالنا وظل ياسر على حاله معنا، وتزايدت مشاعرنا بالفخر والاعتزاز بتولي ياسر مناصب الإدارة العليا في مهنة الصحافة، منصب رئاسة التحرير، ثم رئاسة مجلس الإدارة.

وعلي خطي والده، المرحوم عم فتحي رزق، خطا ياسر على طريق العمل النقابي، ومثل الجمعية العمومية للصحفيين عصوا بمجلس الإدارة أكثر من مرة، قدم خلالها الخدمات والرعايا لغالبية الزملاء الصحفيين.

***

وسبحان الله ولا حول ولا قوة الا بالله، بعد خمس وثلاثين عاما، دار الزمن دورة كاملة، رحل عن دنيانا ” ياسر فتحي رزق ” بين يدي نجله الأكبر ” عمر “، كما رحل العم “فتحي رزق ” بين يدي ياسر.

في يوم السادس والعشرين من يناير عام 2022، غاب ياسر فتحي رزق، ولكني أحسبه مازال موجودا.. مازال موجودا بالفيض الكبير من الذكريات والمواقف التي جمعتنا على مدي يقترب من أربعين عام.. مازال موجودا بألاف المواقف واللمحات البارزة إنسانيا ومهنيا.

ملحوظة: اعتذر عن الإطالة.. كنت اظن ان ما سأكتبه عن الملاك ياسر فتحي رزق، لن يتجاوز بعض مئات من الكلمات، ولكني فوجئت بتجاوز ما كتبته، الألف كلمة، وقد اختصرت العديد من المواقف والذكريات التي ربما كانت تحتاج لعدة الاف أخري من الكلمات، ولكني اختصرت ما استطعت اشفاقا على من سيقرأ.

كاتب صحفي 

محمد صلاح الزهار
Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *