سماسرة العلم!!
ترددت كثيرا قبل أن أمسك بقلمي وأكتب عن هذا الموضوع الخطير وآثرت أن آخذ جانبا وابتعد عن مثل هذه الأمور التي قد تجلب المشاكل لمن يقدم على الخوض فيها.
لكن الكلمة مسؤولية سنسأل عنها أمام الله تعالى والمفكر الحقيقي والكاتب المعتبر هو صوت أمته التي دوما ما يسعى للحفاظ على مقدراتها ، ولا سيما إذا كان الموضوع يخص العلم الذي على أساسه تبنى الأمم ، فما علمنا أمة قامت على الجهل أو العلم الزائف المخادع.
نأتي إلى جوهر الموضوع ، سماسرة العلم ، كنت دوما ما أسمع عن هذا الموضوع ، لكن من ذاق عرف ، من تجرع من نفس الكأس وذاق مرارته علم أنه مر المذاق ومراره أشد من العلقم ، لماذا ؟!، هل وصل الحال بالبعض أن يبيع نفسه ويبيع ضميره وقيمه الخلفية ببضع دراهم ، بثمن بخس ، بئس البائع وبئس المشتري وتعس ثم تعس السمسار النخاس.
هل وصل الحال بالبعض أن يبيع مجهوده الفكري لأولئك الدخلاء على العلم من أجل أن يحصولون على شهادات علمية سواء ماجستير أو دكتوراة لإكمال “البريستيج”، الشكل والمظهر ، والجوهر أجوف خاو، مقابل ماذا أن يقال عنه أنه دكتور، أو الكاتب الفلاني أو القاص والناقد العلاني، من الممكن أن يكون ذلك محمودا، لو كان ذلك بمجهوده وملكاته، لكن يستغل حاجة البعض إلى المال فيلعب من خلال الوساطة والسمسرة على هذا الحبل الرقيق الذي لا أجد مبررا لمن يفعل ذلك سواء من يكتب ويبيع مجهوده أو من يكتب له بضم الياء ، اللهم إلا تدن قيمي و انحدار أخلاقي ومرض نفسي وفشل سلوكي وضياع مجتمعي وتدن ديني ، كالذي يصلي ويسرق ، أو كالذي يزكي وزكاته من الربا أو كالتي تحج البيت كاشفة الرأس.
والأدهى والأمر أن يمد يده ويأخذ ثمن بيع ذمته أخذ الشجعان ليس هذا وحسب بل ويدعى إلى حضور المناقشات العلمية التي هي في الأصل رسالته لكن باعها ببضع دولارات ، ليس هذا وحسب بل وتصفيق حاد لمن يا سادة للسارق والمسروق بإرادته يجلس ناظرا مبتسما ، أسألك سؤالا هل أنت راض عما فعلت ، ما حالك أمام نفسك ، ما حالك وأنت تشاهد مجهودك نسب إلى غيرك بإرادتك ، حتما سيكشف أمرك ولو بعد حين فما منظرك أمام أولادك وآل بيتك وتلاميذك وزملائك.
ماذا ستقول أمام الله ، والله يقول (ما أغنى عني ماليه)، سيسألك الله تعالى عن علمك ماذا فعلت به وماذا عملت به.
سيسألك ضميرك الفردي ، ستسألك المرآة التي تهندم وتزين صورتك أمامها.
سيسألك ضمير المجتمع ، هل أنت فعلا كلفت بحمل الأمانة ومسؤولية تعليم أبنائنا ، إذا كان رب البيت بالدف ضارب ، فشيمة أهل بيته الرقص.
والله فى القلب منكم غصة.
ألا تخجلون من أنفسكم، صدق فيكم قول الشاعر أفعل ما شئت ولا تخجل فالكل مهان ، أفعل ما شئت ولا تخجل فالكفر مباح.
والكفر هنا كفر نعمة العلم التي بعتها بثمن بخس.
ليس في الرسائل العلمية وحسب بل حتى في البحوث سواء البحوث النظرية أو العملية ، زد على ذلك من يكتبون مقالات ويبيعونها وتنسب إلى من يدعون أنهم كتاب ، لكنهم يفتضح أمرهم من أول محاورة أو نقاش فكري.
أضف إلى ذلك القصائد الشعرية والدواوين الشعرية (الحلزونة يا أما الحلزونة).
نعم الموضوع جد خطير ولابد من إصدار تشريعات تجرم هذه الأفاعيل المشينة الشنيعة إذا ما ضبطت مثل هذه الوقائع وبلغ عنها.
ذات يوم أتاني تليفون من شخص ما يطلب مني – بعد أن أثنى علي وعلى كتاباتي – طريقة مقنعة أن أساعدهم في كتابة حلقات عن الحالة الفكرية للأمة العربية والإسلامية في القرن الرابع الهجري ستجسد في عمل ما سعدت سعادة بالغة ، قلت وقتها ستصبح من ذوي الأموال الكبيرة ، ويا لها من فرحة لم تتم وأحمد الله أنها لم تتم ، لماذا ؟!بسؤالي عن هل سيكتب إسمي على هذه الحلقات ، جائني الرد الصادم ، لا ، سيكتب إسم شخص آخر ، قلت لهم طرقتم بابا خاطئا ، نحن لا نبيع فكرنا ، لا نبيع أقلامنا ، لا نبيع تراثنا وحضارتنا ، لا نبيع ديننا ، يا دكتور ما كله يفعل ذلك قلت لا من يفعل ذلك فليس منا هداهم الله.
قالها وطلبها طالب من دولة ما أن أساعده في كتابة رسالته للماجستير قلت وقتها هذا طالب غبي مغرور بأمواله ، وأغلقت الطريق أمامه وشكوته لمشرفه.
نعم يا سادة إذا أردنا حقا النهوض بوطننا وبتعليمه ووضعه في مكانته التي يستحقها فلابد من إغلاق الباب في وجه هؤلاء السماسرة والتصدي لهم بكل حزم وقوة والإبلاغ عنهم لأن في ذلك نصرة للعلم ولأهله ونصرة للإنسان بما هو كذلك لأنه إذا ما وقع واحد في هذا البئر السحيق فستصب اللعنات لا عليه فقط بل على الجميع.
وأقول أيضا على الحكومات توفير حياة كريمة للأساتذة واعطائهم دخولا معتبرة يستطيعون من خلالها العيش الطيب ، حتى إذا ما ضبطوا متلبسين بهذه الشناعات لا تكون لهم حجة ، فلماذا تفعلون ذلك ، وإن كنت أرى أنه لا حجة لمن يفعل ذلك ، لا حجة لمن يبيع نفسه.
وأمثال هؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
يصدق عليهم قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتها وما كانوا مهتدين).
بقلم/ د. عادل القليعي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بآداب حلوان.
Average Rating