دير الطين وأثر النبي !!

Read Time:4 Minute, 14 Second

نزلت «دار السلام» مترجلًا من هضبة المقطم التى قطع أوصالها الطريق الدائرى. خلت نفسى فى مومباى بالهند.

سكان «دار السلام» بجنوب القاهرة، يطلقون على الحى الذى يسكنونه اسم «الصين الشعبية»، تندرًا، ودلالة على الزحام الشديد الذى يعيشونه.

دار السلام منطقة مدهشة، رغم ازدحامها، ليس فيها سوى شارع مرورى واحد. تتلاصق على جانبية آلاف العمارات المكدسة بالسكان.

يصلها ذاك الشارع بمنطقة مصر القديمة، وجزيرة الروضة شمالًا، وبحى المعادى جنوبًا.

لم تخلق دار السلام لتكون سجنا خرسانيا بين الجبل شرقًا وكورنيش النيل غربًا، بل كانت واحدة من أجمل مناطق القاهرة قبل قرن من الزمن، وكانت لجمالها تقارن فى أطلس وصف مصر للحملة الفرنسية بجزيرة الروضة باعتبارها واحدة من رياض الجنة.

أصل اسم دار السلام الحقيقى «دير الطين». غير أن السكان المهاجرين من فقر الصعيد (فى النصف الثانى من القرن العشرين) أعادوا تسمية المكان فى الدوائر الحكومية، وتم توثيق ذلك على الخرائط الحديثة ليصبح «دار السلام»، هروبا من وصمة «الطين»!

وقعت حالات مشابهة فى الصعيد، أشهرها شكوى أهل بلدة «البلاص» فى محافظة قنا من سخرية الناس باسم قريتهم فغيّروه إلى «المحروسة». مع أن البلاص كانت أشهر بلدة لصناعة الآنيات الفخارية فى عموم الصعيد بحكم موقعها الفريد بين الهضبة الغربية، وما بها من طفل صحراوى، وطمى النيل الأسود. ومن خليط الاثنين كانوا يصنعون أشهر وأجمل الأوانى الفخارية.

ثمة علاقة قوية نبهنا إليها علماء الحملة الفرنسية فى موسوعة وصف مصر، وهى أن «دير الطين» كانت مركز صناعة الأوانى الفخارية لعموم القاهرة، لما ضمته من أفضل أنواع الطين.

لو جاء اسم «الطين» بسبب طمى النيل المترسِّب مع الفيضان على الضفة الشرقية أسفل جبل المقطم، فمن أين جاء اسم «دير»؟!

يذهب كثير من الناس إلى أن الاسم نسبة إلى دير مسيحى فى هذه المنطقة، بل ترجح ذلك بعض المصادر المسيحية. لكن الخرائط والتوثيق الذى أعطته الحملة الفرنسية قبل 220 سنة لا يشير إلى ذلك مطلقًا.

صحيح أن هناك عدة أديرة مسيحية تحيط بالمنطقة، إلا أن رسامى خرائط الحملة الفرنسية كانوا واضحين تمامًا فى التفرقة بين النوعين من الأسماء: يكتبون على الدير ترجمته الفرنسية، بينما أبقوا على اسم «دير الطين» كاسم علم لأرض فيضية واسعة بجوارها بلدة صغيرة من عدة بيوت إلى الجنوب من أثر النبى.

والأرجح أن كلمة «دير» تخص الطبوغرافيا وليس الدين المسيحى، فالكلمة منتشرة فى الصحارى المصرية لتشير إلى رقعة من الأرض ـ بيضاوية أو دائرية الشكل غالبًا، منخفضة بعدة أمتار عما يحيط بها. أى أن دير هنا قد تعنى «منخفض حوضى صغير».

وفق هذا التفسير، كان الفيضان حين يصل إلى تلك المنطقة المنخفضة يغمرها بالمياه، وحين تنصرف المياه شمالًا، أو تتبخر البرك والمستنقعات يزداد تراكم الطين فى المنخفض المسمى «ديرا». لذا ظهرت منطقة «دير الطين».

ووجود المياه والمستنقعات والبرك وثيق الصلة باسم آخر يرتبط بدار السلام وهو «الملأة». وكان سكان دار السلام يستعملون هذا المسمى دلالة على «امتلاء» الحى بالبشر.

الحقيقة عكس ذلك، فلا علاقة لاسم «الملأة» أو «الملقة» بامتلاء المنطقة بالبشر. فالكلمة تشير إلى البرك والبحيرات الصغيرة المتبقية عن فيضان النيل.

ومنذ منتصف القرن الماضى، أخذت «دار السلام» تنكر أى صلة لها بالماضى البيئى، وألصقت نفسها بالازدحام والتكدس السكنى والانفجار السكانى، واختفى الطين من وجودها، فلم تعد بها زراعة ولا محاصيل ولا قمح ولا شعير ولا خضراوات ولا بساتين.

الذين وُلدوا مثلى بمنطقة مصر عتيقة وعاشوا فى هذا الإقليم ـ الذى يضم أثر النبى ـ يتذكرون مرحلة انتقالية عاشتها المنطقة قبل 50 سنة، حين تفتحت أعيننا عليها.

كانت أشجار الكافور والجازورين تصطف على جانبى قناة مائية عظيمة تخترق الحقول الزراعية تسمى «ترعة الخشّاب»، كانت تضفى على المنطقة روح الريف الساحرة بكل روائحه العطرة، وخيراته من ثمار الأشجار والمحاصيل.

الذين يعرفون حى دار السلام (دير الطين) يعرفون بالضرورة حى «أثر النبى» الواقع على ضفة النيل الشرقية عند أقدام جبل المقطم، غير بعيد عن «مصر عتيقة» التى تعرف بين العامة باسم «مصر القديمة».

يعتقد السكان المحليون أن فى مسجد أثر النبى أثرا من انطباع أقدام الرسول الكريم فى صخرة محفوظة غير بعيد عن المحراب.

على خريطة الحملة الفرنسية قبل 220 سنة مضت، يقابلنا أول تسجيل علمى لمسجد أثر النبى وغير بعيد موقع دير الطين.

النمو السكانى فى جنوب القاهرة منذ منتصف القرن العشرين ابتلع أثر النبى، فقد اختفى المسجد وسط ورش تكسير الأحجار وجراج أتوبيسات النقل العام وتوسعات الطريق الدائرى.

المهاجرون المعدمون الذى جاءوا من الصعيد الأوسط ـ هربًا من بقايا الإقطاع والعوز ـ لم يكونوا هم المسئولون عن تحويل «دير الطين» إلى «دار السلام»، فحين وفدوا أثناء عهد عبدالناصر، سكنوا أطراف المنطقة الهضبية، ولم تمتد أيديهم إلى الأرض الزراعية، بل استحوذ على المنطقة سكان أكثر قدرة على شراء الشقق والعمارات استغلالًا للموقع الملاصق للمعادى وكورنيش النيل.

«دار السلام» اليوم قطعة مكدسة بالبشر تعكس بدقة الانفجار السكانى كما يتم تدريسه أكاديميًا بكل مشاكله وأمراضه، بعد اختفاء الأرض الزراعية، وردم ترعة الخشاب قبل 40 سنة. ويعلوها الآن طريق وحيد غارق فى عوادم السيارات يصلها بالمعادى جنوبًا ومصر عتيقة شمالًا.

يحدد علماء الجغرافيا والبيئة مرحلة من التغيرات البيئية يسمونها «غير قابل للاسترداد»، أى أن محو السكان وهدم العمارات واستعادة «دير الطين» لتصبح أرضًا خصبة منتجة للغذاء صار أمرًا مستحيلًا اليوم.

الفائدة الوحيدة من درس «دير الطين» التى صارت دار السلام (كدت أكتبها دار الزحام)، هى أن نسرع بإنقاذ المناطق التى تلفظ فيها الأراضى الزراعية أنفاسها الأخيرة من التجريف والتبوير حتى لا نسير نحو المجاعة.. بكل ثقة!

بقلم/د. عاطف معتمد 

استاذ الجغرافيا

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *