الفارس القديم وأحلامه!!

Read Time:4 Minute, 18 Second

اثنتان وتسعون سنة تمر اليوم على ميلاد الشاعر صلاح عبد الصبور، الرجل الذى أغلق نافذة الرومانسية، وفتح بوابة المسرح على مصرعيها فى ساحة الشعر العربى.

فقد قدم بديوانه “أحلام الفارس القديم” مرثية حقيقية للرومانسية فى قصيدته التى تحمل العنوان نفسه، وهى مرثية العاجز عن الاستمرار فى الطريق لا الناقم عليه، وقد بدأها بأربعة أحلام رومانسية مسبوقة بـ (لو)، قبل أن يثور ثورته الأخيرة عليها، وعلى اللغة أيضا:

لو أننا .. لو أننا

لو أننا، وآه من قسوة “لو”

يا فتنتى، إذا افتتحنا بالمنى كلامنا

لكننا،

وآه من قسوتها “لكننا”

لأنها تقول فى حروفها الملفوفة المشتبكة

بأننا ننكر ما خلفت الأيام فى نفوسنا

نود لو نخلعه

نود لو ننساه

نود لو نعيده لرحم الحياة

ولهذا لم يكن غريبا أن يختار الشاعر لقصيدته الكراسة الثالثة من الديوان، والتى تحمل عنوان “من أغانى الخروج”، ذلك الخروج العاطفى والفنى أيضا فى آن.

على أن المبرارت المنطقية لهذا الخروج موجودة فى القصيدة ذاتها، لكننا نراها بوضوح أكبر فى قصيدة أخرى بالديوان نفسه، تحمل عنوان “الحب فى هذا الزمان”، حيث يقول:

الحب فى هذا الزمان يا رفيقتى ..

كالحزن، لا يعيش إلا لحظة البكاء

أو لحظة الشبق

الحب بالفطانة اختنق

ولا يفهم من هذا أن الشاعر قد تخلى عن مشاعره الجياشة، لكن الحياة قد أجبرته على السير بها فى اتجاه جديد، يشير إليه أيضا بالديوان نفسه فى قصيدة “أغنية لليل”، متمثلا فى وصفه لذلك التحول المنشود بقوله: (وعاطفا، لا عاطفيا)، وهو ما ظهر بوضوح فى دواوينه الثلاثة التالية لهذا الديوان الثالث فى مسيرته الشعرية.

وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن شعر صلاح عبد الصبور عموما لم ينج من تصنيف بعضهم له أحيانا بالرومانسية، وبخاصة بعد أن أصبحت الرومانسية لدى الأجيال الجديدة تهمة أيديولوجية وليست اتجاها فنيا.

وكل هذه التصنيفات لا تهم من وجهة نظرى، فالشعر ما أشعرك، والعبرة بالتأثير الذى أحدثته قصائده فى الشعراء المعاصرين له، المحبين والمعارضين أيضا. فنحن لا نستطيع حصر تأثيراته على الشعراء المصريين وبخاصة الشباب، حيث كانت عبارة: “حاول الخروج من عباءة صلاح عبد الصبور” جملة ثابتة فى الندوات النقدية الأسبوعية بالجامعة. كما أننا لا نعدم أثرا لصداه لدى كبار الشعراء العرب أيضا.

فأنا مثلا عند الاستماع إلى عبد الحليم حافظ يغنى لنزار قبانى:

إن كنت قويا أخرجنى من هذا اليم

لا أستطيع أن أبعد عن رأسى قول صلاح فى قصيدة “مذكرات رجل مجهول”:

إن كنت حكيما نبئنى كيف أجن

وعندما أستمع إلى قول درويش فى رائعته “لا تعتذر عما فعلت”:

هو أنت ثانية؟

ألم أقتلك؟

أتذكر على الفور قول صلاح فى قصيدته “استطراد أعتذر عنه”، (ولاحظ حوار العنوانين):

أنت؟ ألم أدفنك منذ عام

أيتها الجثة الغريبة؟

على أن الإنجاز الأكبر لصلاح عبد الصبور من وجهة نظرى يتمثل فى مسرحه الشعرى، فصحيح أن الريادة لأحمد شوقى وعزيز أباظة وعبد الرحمن الشرقاوى، لكننى أرى أن ما قدمه صلاح يمثل نقطة فارقة فنيا بين الشعر المسرحى والمسرح الشعرى.

وأعتقد أن انتقال عبد الصبور من كتابة القصيدة العمودية إلى كتابة شعر التفعيلة، لم يكن قفزة موسيقية فى الهواء، أو مجرد توزيع للكلمات المكتوبة فوق بياض الصفحة بطريقة جديدة، كما هو الحال عند شعراء آخرين؛ بل كان محاولة لإحداث تحول نوعى ينقل القصيدة العربية من الغنائية المفرطة إلى الدرامية، وقد توج هذا التوجه بكتابة مسرحياته الشعرية الخمس.

وربما يرجع السبب فى ذلك إلى أنه كان مسرحيا بمعنى الكلمة، كما يتجلى بوضوح فى تذييله لمسرحيته الثانية “مسافر ليل”، التى تمثل إسهاما حقيقيا فى تراث مسرح العبث العالمى، والتى ترجمت وعرضت فى العديد من دول العالم. حيث يقول فى كلمته التى تعد دراسة نقدية رصينة وكاشفة لتاريخ المسرح العالمى ومستقبله: “أنا أؤمن أننا – نحن الشعراء الذين نكتب للمسرح – قد أهملنا تقليدا جليلا، وهو أن نكون كتابا ومسرحيين فى ذات الوقت كما كان أسلافنا منذ إسخيلوس حتى شكسبير، وقد نتج عن تراخينا فى أداء واجبنا أن دخل إلى المسرح، ووقف بيننا وبين النص عديد من الوسطاء، أهمهم المخرج”.

فقد كان صلاح عبد الصبور يتخيل كل حرف يفكر فى كتابته، معروضا فوق خشبة المسرح قبل أن يشرع فى تسجيله على الورق. كما كان يحرص على تسجيل رؤيته للعرض، عبر تكثيفه للإرشادات المسرحية خارج الحوار وداخله.

أما من الناحية الموضوعية، فإن عبد الصبور الذى ابتعد فى دواوينه الشعرية عن السياسة، قد أوقف مسرحه الشعرى كله على قضية سياسية محورية واحدة تتمثل فى صراع المثقف والسلطة، من أجل تحقيق الحرية والعدل. حيث تجلى هذا الصراع فى صور متعددة، ينتصر فيها المثقف حينا بواسطة رموز ثقافية وفنية، وينهزم أحيانا أمام سيف السلطان أو ذهبه.

ففى “مأساة الحلاج”، صلبت السلطة الحلاج/ المثقف، عندما خلع خرقة الصوفية وقرر القيام بدوره التنويرى تجاه الشعب. وفى “مسافر ليل”، ساعد الراوى/ المثقف، عامل التذاكر الديكتاتور، فى حمل جثة الراكب/ الشعب. وفى “الأميرة تنتظر” قام القرندل/ المؤرخ، بقتل السمندل/ الديكتاتور، بالخنجر/ الأغنية. وفى “ليلى والمجنون” حاول سعيد/ الشاعر، قتل حسام/ جاسوس السلطة، بضربه بالتمثال/ مطفأة السجائر. وفى “بعد أن يموت الملك” قام الشاعر، بفقء عين الجلاد، بالناى/ السيف.

وأهم ما يميز مسرح صلاح عبد الصبور أن لغة الشعر كانت فى خدمة الدراما، وأن صوت الشاعر توارى خلف شخصياتها، وإن كان هذا لم يمنع من أن يكون بعض أبطال مسرحياته شعراء، فهو شاعر فى المقام الأول.

وعلى الرغم من أن وصف صلاح عبد الصبور الشهير لبودلير فى قصيدته عنه، قد جرى مجرى المثل: “شاعر أنت والكون نثر”؛ فإن ذلك الوصف لم يعد الآن من قبيل المدح، حيث تغيرت الذائقة كثيرا، وأصبح هناك نماذج من قصيدة النثر تتفوق فى شعريتها على القصائد الموزونة؛ لكن التقييم الموضوعى لإنجاز الرجل، يجب أن يكون فى سياقه التاريخى العادل.

بقلم/د. احمد مجاهد

رئيس هيئة قصور الثقافة السابق

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *