“جروتوفسكى” فى “مسافر ليل” تختتم أولى أمسيات الفضاءات المتعددة 

Read Time:4 Minute, 23 Second

د . ندى طارق تكتب : 

ضمن محور الأبحاث العلمية فى أولى الأمسيات الفكرية بمهرجان الفضاءات المتعددة دورة الأستاذ الدكتور أشرف زكى ، قدم د . محمد جمال الدين عرضاً عن ورقته البحثية المعنونة بملامح اتجاهات جروتوفسكى فى فضاءات عروض المسرح المصرى غير التقليدية، مسافر ليل نموذجاً ، وقد جاء فى عرضه، تعتبر إتجاهات مسرح (جروتوفسكي) قائمة على أن يصبح عمل الممثل هو الأساس، انطلاقًا من أن ماهيه المسرح تقتضي إبراز عنصر الممثل في مواجهة المتلقي، مع التمرد على الشكل المسرحى التقليدى (العلبة الإيطالى)، بالإضافة إلى محاولة إشراك الجمهور المتلقى فى العملية المسرحية، علاوة على خلق علاقة بين الممثل والجمهور، إضافة إلى الإهتمام بالصورة المسرحية والإتجاه إلى التجريب المسرحى، وعليه يحاول الباحث الكشف عن ملامح إتجاهات (جروتوفسكى)، فى فضاءات المسرح المصرى غير التقليدية، من خلال التطبيق على عرض مسافر ليل، تأليف (صلاح عبد الصبور)، سينوغرافيا وإخراج (محمود فؤاد صدقى)، إنتاج قطاع شئون الإنتاج الثقافى – مركز الهناجر للفنون (2017)، واستمر عرضه حتى (2022)، وشارك فى العديد من المهرجانات والفاعليات، وحصد العديد من الجوائز .

يعد مسرح (صلاح عبد الصبور) مسرحًا سياسيًا خالصًا، إذ ناقش من خلاله قضايا القهر والظلم، وعلاقة المثقف بالسلطة وغير ذلك، حتى أن عناوين أعماله المسرحية ترتبط ارتباطًا كبيرًا فى دلالتها بالسلطة، كما ترتبط مسرحياته أيضًا بمسرح (العبث) و(الكوميديا) السوداء .

استطاع (علاء قوقه) إنطلاقًا من احترافيته وخبراته العريضة وحضوره الطاغى أن يجسد دور (عامل التذاكر / عشرى السترة) بجدارة، مهيمنًا على فضاء العرض بما فيه الجمهور، حيث فرض من خلال أدائه المتميز سلطته وتسلطه على الجميع، كما استطاع أن يعيد نحت الشخصية من جديد، وأسبغ عليها مقومات مختلفة من ذاته الإبداعية، خاصة أن تلك الشخصية تحمل بين ثناياها الكثير من المنحنيات والصعود والهبوط، والإنتقالات السريعة بين (الكوميديا) و(التراجيديا) و(السلطوية)، وهو ما يتطلب الكثير من التحولات النفسية في الأداء، وهو ما تمكن (علاء قوقه) من تقديمه بإحترافية شديدة، إذ أضفى على الشخصية سحرًا خاصًا وبريقًا أخاذًا .

نجح أيضًا (حمدي عباس) فى تجسيد دور (الراكب)، إذ جاء الأداء ملائمًا لأبعاد الشخصية تمامًا، من خلال وعى (حمدى عباس) وإدراكه لشبكة العلاقات بين الشخصيات فى الفضاء المسرحى، علاوة على إستغلاله التباين الجسمانى بينه وبين (علاء قوقه / عامل التذاكر) لتقديم دلالات أدائية تخدم الدور، وتقدم مفاهيم جديدة بأذهان الجمهور .

جسد (جهاد أبو العينين) دور (الراوى) بإقتدار، إذ استطاع عبر التلوين الصوتى التعبير عن الجمل والإنفعالات التى يلقيها على الجميع بشكل يحسب له، فظهر وكإنما يقدم معزوفة موسيقية يتنقل بسهولة وتناغم بين نغماتها، إذ تجول بأداء إنسيابى بين دلالات العرض السلطوية والإستبدادية والضعيفة .

استطاع المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) أن يقدم (مسافر ليل)، عبر رؤية (سينوغرافية) وإخراجية مغايرة لها مذاق خاص، إذ قدمها في شكل غير متعارف عليه، ابتعد فيه تمامًا عن العلبة (الإيطالية)، متمردًا على الشكل المسرحى التقليدى المتعارف عليه، مفجرًا للأطر المسرحية التقليدية، إذ نقل أحداث المسرحية إلى فضاء غير تقليدى، حيث قام ببناء تكوين خشبي كبير على هيئة (عربة) قطار في ساحة (الهناجر) بدار (الأوبرا) المصرية .

تعتبر فكرة تحول (عربة) القطار فى مسرحية (مسافر ليل) إلي الفضاء المسرحى الذى تعرض عليه الأحداث، أحد أهم الأفكار لتقديم فضاءات مسرحية غير تقليدية، وهى رؤية (سينوغرافية) جديدة للمخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) لم يسبقه إليها أحد، استطاع من خلالها أن يجعل الجمهور يتفاعل مع (عامل التذاكر)، ويبدو مبهورًا بتطور الأحداث، من خلال تفاعل إيجابى سيكولوجيًا مع الظلم والقهر والتسلط وإنعكاستهم .

استطاع المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) أن يمزج التعبيرية بالرمزية في بنية عبثية، تنبثق فيها الصور مستدعاة من ذاكرة الشخصية الرئيسة، ومتجسدة بصورة قاسية أمام عينيه، ومن ثم تجري أحداث العرض في أجواء (فانتازية) قاتمة، داخل (عربة) قطار مسرعة تشير برمزيتها إلى الحياة المتحركة دومًا للأمام، منغلقة على شخصياتها غير القادرة على الفرار منها .

استغل (محمود فؤاد صدقى) عنصر الظل استغلالًا جيدًا، إذ يصعد (عامل التذاكر) ليجلس في مقعد علوي، وهو يتحدث مع (الراكب) الذي يجلس في مقعد سفلي، فيبدو الظل من خارج القطار عبارة عن قدم (عامل التذاكر) تعلو رأس (الراكب)، وكأنه يدهسه بقدمه، وعليه فقد جاء الظل رمزيًا يحمل الكثير من دلالات التسلط والقهر، وإغتراب الإنسان،

تأسيسًا لما سبق يتضح الجرأة التي قدم بها المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) رؤيته فى عرض (مسافر ليل)، من حيث طبيعة الفضاء المسرحى غير التقليدى لأحداث العرض للإيهام بحداثته، فى إطار من العبثية ذات العمق التعبيري المعبر عن الشخصية المتفردة، وأحلامها وكوابيسها ورعبها من العالم، فضلًا عن فقدان المعنى، وذلك من خلال تفكك البناء وتفتت الشخصية الدرامية .

تحمل رؤية (محمود فؤاد صدقى) الكثير من ملامح إتجاهات (جروتوفسكي)، بل أن العرض يمثل تطبيقًا حيًا لإتجاهات (جروتوفسكي)، إذ اعتمد (محمود فؤاد صدقى) على بناء الصورة، وتكوينات الديكور من خلال المنظر الواحد (عربة) القطار، مع الإنسجام بانسيابية فى حركة الممثلين بداخلها من ناحية، ومع أماكن جلوس (الجمهور) على مقاعد (الركاب) من ناحية أخرى، وهو ما منح تناغم وحرية فى الفضاء المسرحى (عربة) القطار، إذ تمرد على خشبة العلبة (الإيطالية) التقليدية، وقدم عرضه فى (عربة) قطار قام بتصميمها كفضاء مسرحى يقدم من خلاله عرضه (مسافر ليل)، كما جعل (الركاب / الجمهور) داخل الأحداث الدرامية كمتلقين إيجابيين مشاركين فى الأحداث، بعيدًا عن أماكنهم التقليدية المعتادة فى قاعات المسارح التقليدية، مما أوجد حميمية وتفاعل بين (الركاب / الجمهور) وبين الممثلين، وهو ما قامت عليه فلسفة (جروتوفسكى) والتى تمردت على الشكل المسرحى التقليدى، وعلى التحديد التقليدى لأماكن جلوس الجمهور، وأيضًا المكان التقليدي للتمثيل، مع خلق حميمية بين (الجمهور) والممثلين، وتحويل (الجمهور) من حالة التلقى السلبى، إلى حالة التلقى الإيجابى، بوصفه مشاركًا فى الأحداث، بالإضافة لتكوين صورة مسرحية تجريبية مغايرة لما هو مألوف مسرحيًا .

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *