
المنتصر والمهزوم في حرب الفيل والخرتيت!!
لا تصدقه ولا تصدق أعوانه حين يزعمون أن تلك كانت استراتيجيته من البداية، ففي أثناء فترته الرئاسية الأولى كان يتخذ من صعود بورصات الأسهم معيارًا لنجاحه، ولكنه بعد اهتزازها في خضم حرب الجمارك التي شنها على كوكب الأرض عمد إلى التقليل من شأنها باعتبارها مجرد حبة أسبرين.
صحيح أنه يعتبر الكذب والغش والخداع والتهويل والتهوين من بين مهارات التاجر الناجح إلا أن غروره السوقي وبلطجته الصبيانية ونرجسيته المريضة وقفت جميعًا بينه وبين دراسة حقيقية واقعية لتبعات حرب تجارية عالمية بهذا الحجم، بدءً ببلاده هو وشعبه واقتصاده وحزبه وحلفائه من حيتان المال والأعمال. وحين بدأت الأمور تتخذ منحنًى جادًا أتته الضربة الأولى الموجعة ممن يمكن وصفهم بحراس السندات الحكومية التي تقع في قلب السياسات الاقتصادية الأمريكية.
ومن ثم قرر التراجع الجزئي بتعليق العقوبات (فيما فوق 10%) لمدة ثلاثة أشهر يأمل خلالها في فرض شروطه الجديدة على دول وكيانات اقتصادية كثيرة “تهرول لخطب وده” بحيث يكون هو “الفائز الوحيد فيها”، على حد تعبيره. يُستثنى من هذا “الكرم” بعض الدول والكيانات “المشاغبة”، وعلى رأسها بكل تأكيد الصين.
بلغت جمارك ترمب على الصين – حتى وقت كتابة هذه السطور – 145% بعد أن توقفت الصين في جماركها المضادة عند 125% معلنةً ما مؤداه “مش هنهزر بقى خليها 1000% بالمرة لو حبيت”. مسخرة يتمسك الصينيون فيها بالوقوف في وجهه حتى النهاية، ويستحضرون في سياقها ماو تسي تونغ، بينما يتمسك هو فيها بالمقامرة باقتصاده ومعيشة مواطنيه وبقية العالم لمجرد أنه يرى أن الصينيين لم يُظهروا ما يكفي من احترام لشخصه.
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي 585 مليار دولار، منها 440 مليارًا قيمة الصادرات الصينية إلى أمريكا في مقابل 145 مليارًا قيمة الصادرات الأمريكية في الاتجاه العكسي. ينتج عن هذا عجز في الميزان التجاري قيمته 295 مليار دولار لصالح الصين (ما يعادل حوالي 1% من إجمالي الاقتصاد الأمريكي)، بينما يكذب ترمب فيزعم أن العجز يبلغ تريليون دولار.
ترمب نفسه أثناء فترة رئاسته الأولى كان قد فرض رسومًا جمركية ضخمة على الصين أدت إلى خفض حصتها في مجمل الواردات الأمريكية من 21% عام 2016 إلى 13% العام الماضي. التفت الصين على ذلك بغزو أمريكا عن طريق دول وسيطة في جنوب شرق آسيا. هذه جبهة هامة من جبهات الحرب التجارية سيقوم الزعيم الصيني، شي جينبينغ، بجولة فيها الأسبوع القادم وهو يعلم أن ترمب يساومها على التخلي عن الصين لصالح بلاده إذا أرادت صفقة معه.
أبرز صادرات الصين إلى أمريكا هي الهواتف الذكية والحواسب والبطاريات ولعب الأطفال ومعدات الاتصال، بينما أبرز صادرات أمريكا إلى الصين هي فول الصويا والطائرات والمحركات والدوائر المتكاملة والأدوية والبترول. تستطيع الصين وضع قيود على وصول أمريكا إلى معادن أساسية كالنحاس وبعض المعادن النادرة التي تستخدم في أغراض عسكرية وتكنولوجية، وهو ما أعلنت جانبًا منه فعلًا، مثلما تستطيع أمريكا إحكام القبضة على وصول الصين إلى الرقائق الدقيقة المتقدمة اللازمة لتطوير مجالات الذكاء الاصطناعي.
الأمر ليس بالبساطة التي يحلو لترمب أن يتصورها أو يصورها لجمهوره. حقائق التاريخ وقواعد الاقتصاد تؤكد جميعًا ألا فائز في أي حرب تجارية، فالكل خاسر. لكن الجدير بالملاحظة أن هاتين الدولتين معًا وحدهما تمثلان نحو 43% من اقتصاد العالم. و بلغة الغابة هما فيل و خرتيت، لدى كل منهما قدرة على استيعاب قدر كبير من الألم في معركة، لكن الذي يمكن أن يدفع ثمنًا أكبر من جراء هذه المعركة هو بقية سكان الغابة.
لهذا، لا تتحمل أي دولة، حكومةً أو شعبًا، ألا تراقب الموقف عن كثب استعدادًا لكل السيناريوهات المحتملة إذا كانت حقًا تأمل في تجنب ركلة من الفيل أو نطحة من الخرتيت، مقصودة أو غير مقصودة.
بقلم الإعلامي/ يسري فودة
Average Rating