جرأة “نجاة” وصمت “سعاد”!!
كان الفنان عبد الحليم حافظ، يتصل
بالأستاذ نزار قباني، كلما شاء “حليم” أو “الملحن” تغيير كلمة أو كلمتين أو أكثر من قصيدته المرشحة للتلحين والغناء.
وإذا راجعت القصيدة في نصها الأصلي بديوان نزار مثلا.. وراجعت النص المعدل للغناء.. ستجد كل كلمة “تغيرت” جاء مكانها كلمة أخرى لا تخل بوزن البحرالذي كتبت عليه القصيدة.. وأشهر نموذجين لهذا التعديل المنضبط: “رسالة من تحت الماء”.. و”قارئة الفنجان” والأخيرة ظلت في “جيب” حليم ثلاث سنوات قبل أن يقرر غنائها، إلى أن اتصل ـ بصعوبة بالغة ـ بالأستاذ نزار قباني الذي كان آنذاك كثير التنقل بين دمشق وبيروت ودبي، وعدل له ما يريده نزولا لطلب الأستاذ الموجي.
وكانت كذلك السيدة أم كلثوم خاصة في أغنيتها الشهيرة “الأطلال” وهي قصيدة كتبها الراحل د. إبراهيم ناجي على بحر الرمل.. ونصها الأصلي في ديوان ناجي “ليالي القاهرة”.. يقول فيها :
يا فؤادي رحم الله الهوى” .. فعُدلتْ ـ عن طريق شاعر كبير مثل الأستاذ أحمد رامي ـ إلى :
يا فؤادي لا تسلْ أين الهوى
وتفاعيلاته:
“فاعلاتن فاعلاتن فاعلا”
ولم يختل الوزن حيث جاء التعديل على بحر “الرمل” تماما بدون أي إخلال.
كذلك كان يفعل الأستاذ كاظم الساهر، في كل قصائده التي غناها للأستاذ نزار.. كان الأخير ـ على حياته ورغم مرضه ـ يعدل بنفسه الكلمات التي يراها الملحن “ثقيلة” على “العود” أثناء التلحين والبروفات.. على النحو الذي تكون فيه كل كلمة معدلة سليمة ومنضبطة عروضيا.
عندما كتبت مقالي ـ منذ أيام ـ عن د. سعاد الصباح استمعت إلى قصيدتها “لا تنتقد خجلي” بصوت الفنانة نجاة الصغيرة.. لفت انتباهي وجود “كسر” في وزن القصيدة وفي أول بيت منها..
غنت نجاة على هذا النحو:
لا تنتقد خجلي الشديد فإنني
بسيطة جداً.. وأنت خبير
والقصيدة كلها مكتوبة على بحر الكامل.. وفي الشطر الثاني من مطلع الأغنية جاءت كلمة “بسيطة” ووزنها “مُتَفْعِلُنْ” وهي تفعيلة من تفعيلات بحر “الرجز” وليست من بحر “الكامل”. فصار هذا الشطر من القصيدة مختلا تماما لا هو “كامل” على ما جرت عليه بقية القصيدة ولا هو “رجز”.. ولا يجوز أن يقع فيه شاعر كبير بوزن وحجم د. سعاد الصباح.. فعدت إلى أصل القصيدة في ديوانها “امرأة بلا سواحل” وجدت الشطر مكتوبا على هذا النحو:
لا تنتقد خجلي الشديد فإني
درويشة جدا ، وأنت خبير
أي جاءت في النص الأصلي كلمة “درويشة” .. وهي منضبطة عروضيا “بحر الكامل”.. ووزنها “مُتْفَاعِلُنْ”.. ما حملني على الاستغراب وتساءلت: هل راجعت نجاة الصغيرة أو الملحن الأستاذ كمال الطويل الشاعرة سعاد الصباح؟!
لا أظن ذلك؟! فكيف فعلوها.. ولِمَ سكتت هي كل هذه السنوات من غير ما تصوب لهم الخطأ أو تُصدر بيانا توضح فيه للرأي العام ملابسات تمرير القصيدة إلى الجمهور وفيها هذا “الكسر” أو الخلل العروضي؟!
مسألة محيرة فعلا!! لعلي أجد إجابة على هذا السؤال بعد النشر!
تقول القصيدة:
لا تنتقدْ خجلي الشّديدَ.. فإَّنني
درويشةٌ جدّاً.. وأنتَ خبيرُ
يا سيِّدَ الكلِماتِ.. هبني فُرْصة ً
حتى يذاكِرَ دَرْسَهُ العُصفُورُ..
خذني بكلِّ بساطتي.. وطُفولَتي
أنا لم أزلْ أحبُو.. وأنتَ كبيرُ
أنا لا أفرِّقُ بين أنفي أو فمي
في حين أنت، على النساء قديرُ..
من أين تأتي بالفصاحَةِ كُلِّها
وأنا.. يموتُ على فمي التَّعبيرُ؟
أنا في الهوى، لا حولَ لي أو قُوَّة
إنّ الُمحِبَّ بِطَبْعِه مكْسورُ
إني نسيتُ جميعَ ما علَّمْتَني
في الُحبَّ، فا غفِرْ لي، وأنتَ غفورُ
يا واضع التّاريخ.. تحت سريرهِ
يا أيُّها المتشاوِفُ، المغرورُ
يا هادئ الأعصابِ.. إنَّكَ ثابتٌ
وأنا.. على ذاتي أدورُ.. أدورُ
الأرضُ تحتي، دائماً محروقةٌ
والأرض تحتكَ مخملٌ وحرير
فرقٌ كبيرٌ بيننا، يا سيِّدي
فأنا محافظةٌ.. وأنت جَسُورُ
وأنا مقيدةٌ.. وأنت تطيرُ
وأنا محجَّبةٌ.. وأنت بصيرُ..
وأنا..أنا.. مجهولةٌ جدّاً..
وأنتَ شهيرُ..
فرقٌ كبيرٌ بيننا.. يا سيِّدي
فأنا الحضارةُ والطُّغاةُ ذكورُ..
بقلم/ محمود سلطان
كاتب صحفي
Average Rating