في وداع تحية كاريوكا
المرة الأولى والأخيرة التي رأيتها ترقص فيها على خشبة المسرح كانت صيف 1950 في كازينو بديعة في الجيزة، مباشرة تحت موقع فندق شيراتون حاليًا، بعد أيام رأيتها قرب دكّانة خضار في حي الزمالك، وكانت لا تقل إثارة وجمالاً عن حضورها على المسرح، لكنها هذه المرة كانت ببذلة أرجوانية فاتحة وحذاء بكعب عال، وواجهتني بنظرة صريحة إلى العينين أخجلتني كان عمري 14 عامًا وقتها وأجبرتني على اشاحة نظري عنها.
عندما أخبرت عائدة، زوجة ابن عمي، عن تصرفي البائس تجاه تلك المرأة العظيمة قالت باستخفاف: “كان عليك أن تجيبها بغمزة!”، وكأن هذا ممكن ليافع خجول مثلي، إنها تحيّة كاريوكا، أروع فنّانات الرقص الشرقي في العالم العربي وأطولهن عهدًا، إذ استمرت حياتها الفنية نحو ستين سنة، من أوائل الثلاثينات عندما ظهرت على مسرح كازينو بديعة في ساحة الأوبرا، مرورًا بعهد الملك فاروق الذي انتهى في 1952، ثم المرحلة الثورية بقيادة جمال عبدالناصر، فعهدي أنور السادات وحسني مبارك.
وأرسلها كل من هؤلاء عدا مبارك كما اعتقد مرة أو أكثر إلى السجن، بتهم مختلفة غالبيتها سياسية. وإضافة إلى الرقص فقد مثّلت في مئات الأفلام وعشرات المسرحيات، كما شاركت في التظاهرات ونشطت ربما لدرجة العدوانية في نقابة الممثلين، ثم تحولت إلى الدين في سنينها الأخيرة، واصبحت تعرف بـ”الحاجة” لدى الاصدقاء والمعجبين، لكنها بقيت على صراحتها المعهودة في التعبير عن رأيها. وكان عمرها 79 عامًا عندما توفيت بنوبة قلبية في مستشفى في القاهرة في 20 من الشهر الماضي.
قبل نحو عشر سنوات قمت بزيارة الى القاهرة خصيصًا لمقابلتها، بعدما شاهدت العشرات من افلامها ومسرحياتها، من بينها مسرحية “يحيا الوفد” البالغة الرداءة من تأليف زوجها آنذاك فايز حــــلاوة، الأصغر سنًا منها والذي شاركها في البطولة، وأخبرتني لاحقًا أنه كان انتهازيًا سرق كل أموالها وتصاويرها وافلامها وتذكاراتها. ورغم تحجبها وثوبها الأسود اثناء المقابلة فقد توهّجت حيوية وذكاء مثلما كانت دومًا كراقصة أو ممثلة أو شخصية عامة.
ونشرتُ مقالة تقديرية لها في مجلة “لندن ريفيو اوف بوكس” حاولت فيها ايفاءها حقها كراقصة ورمز ثقافي ليس فقط في مصر، وهي لم تعمـــــل خارجهـــا، بــــل في كل العالــــم العربي. فهي معروفة لكل العـرب من خلال السينما أولاً ثم التلفزيون، بفضل مهارتها المذهلة التي لم ينافسها فيها أحد كراقصة، وأيضاً فتنتها المصرية وما فيها من التلاعــب الساحـــر بالكـــلام وتلك الايماءات وروحية المناكفة والغزل، وهي تماماً الصفات التي جعلت العالــــم العربي دوماً يعتبر مصر عاصمته في مجال الملذات وفنـــون الاغــراء والقــــدرة التي لا مثيـــل لها على المـزاح والألفـــة.
أعتقد أن غالبية عرب المشرق يتفقون، ولو في شكل عام، على أن السوريين العبوسين واللبنانيين الأذكياء وعرب الخليج الذين لا يخلون من خشونة والعراقيين زائدي الجدية لا يستطيعون مقاومة اغراء ما تقدمه مصر منذ قرون، وبأعداد هائلة، من الفنانين والمهرجين والمغنين والراقصين. وباستمرار تترافق اقسى التهم السياسية التي قد يوجهها فلسطينيون او عراقيون الى الحكومة المصرية مع الاعتراف بلطف مصر والمصريين عموماً، وبخاصة عندما يتمثل بتلك اللهجة الأخّاذة بنبرتها السريعة وايقاعها المتراقص. واحتلت تحية، رغم كل نواقصها وتقلباتها غير المفهومة احياناً، بل ربما بسبب تلك النواقص، موقعًا متميزًا ضمن هذا الوسط المليء بالنجوم والنابض بحب الحياة، إذ كانت يسارية راديكالية في بعض الأمور، وانتهازية خانعة في غيرها، ولا تتماشى عودتها المتأخرة إلى الإسلام إلاّ بصعوبة مع نواح اخرى من حياتها، مثل اعترافها انها تزوجت 14 مرة ان لم يكن اكثر وحرصها اثناء حياتها الفنية على اصطناع سمعة فضائحية لنفسها.
كتب كثيرون عن تحية منذ وفاتها، لكن أود ان أضيف ثلاث نقاط اعتقد انها تستحق الذكر، النقطة الأولى هي أنها جوهريًا ظاهرة لا تقبل الترجمة الى الثقافات الأخرى، فقد بقيت مجهولة خارج العالم العربي رغم شهرتها المذهلة فيه، وليس من فنان يقارنها في هذا المجال سوى مرتلة القرآن الكريم العظيمة والمغنية الرومنسية أم كلثوم التي توفيت في 1975، التي لا تزال تسجيلاتها تحظى باعجاب المستمعين في أنحاء العالم، ربّما أكثر حتى مما في حياتها عندما كانت تحيي حفلات الخميس الشهيرة في القاهرة لتتردد اصداؤها من المحيط الأطلسي الى شواطئ المحيط الهندي.
وهي الآن محط اعجاب وتقدير كل محبي الموسيقى الهندية والكاريبية وما يسمى “موسيقى العالم”. لكنني بعدما استمعت الى موسيقاها في طفولتي الى حد التخمة، أجد انني لا استطيع تحمل اغانيها التي تستمر الواحدة منها اكثر من اربعين دقيقة، ولا اتقبلها ذوقياً كما يتقبلها أولادي الذين يعرفونها من التسجيلات فقط. لكنها، بالنسبة الى الذين يميلون الى النمذجة الحضارية، تمثل شيئاً يعبر في شكل جوهري عن الثقافة العربية الاسلامية، بتكراراتها المتراخية الطويلة ونبضها البطيء وايقاعاتها الزاحفة وأحاديتها الصوتية المضجرة وأغانيها الدامعة أو الدينية الخ – وهي عناصر تطربني احياناً لكن لم استطع التآلف معها، ولا أزال أشعر بأنني لم استطع اكتشاف سر قوتها، وربما كنت الوحيد بين العرب الذي يشعـر بذلك.
أما تحية فهي تكاد تكون مغمورة على الصعيد العالمي مقارنة بأم كلثوم، ولا تنجح حتى افلامها القديمة في اثارة اهتمام المشاهد الأجنبي استثني من ذلك فنّانات الرقص الشرقي، وغالبيتهن حالياً غير عربيات – الكثير منهن من روسيا وأميركا واوكرانيا وأرمينيا وفرنسا – اللواتي يعتبرنها ملهمتهن الرئيسية.
ويختلف الرقص الشرقي بنواحٍ كثيرة عن الباليه، نظيره بين فنون الرقص الغربي. ذلك ان الباليه يدور على التحليق والخفة وتحدي ثقل الجسد. أما في الرقص الشرقي، كما مارسته تحية، فنجد الراقصة وهي تثبت موقعها بشكل متزايد في الأرض، بل تبدو كأنها تحفر مكاناً فيها، ولا تتحرك الا بالكاد، من دون محاولة للتعبير عن انعدام الوزن كما لدى راقص او راقصة الباليه. واذا كان رقص تحية العمودي يوحي بسلسلة من الملذات الأفقية، فهو يوحي في الوقت نفسه بنوع من المراوغة اللطيفة التي تستعصي على التحديد العقلاني. وقامت عروضها في سياق عربي اسلامي، لكن من خلال علاقة التناقض والتأزم مع ذلك السياق. وكانت تنتمي الى تقليد “العوالم”، الذي تكلم عنه كبار عارفي مصر الحديثة مثل فلوبير وادوارد لاين، اي المحظية التي تجمع الثقافة الى فنون الغواية الجسدية. ولم يمكن ابداً اعتبارها جزءًا من فرقة، مثلاً كما في رقص الكاثاك، بل كانت دوماً تلك الشخصية المتفردة، الخطرة نوعاً ما، التي تجذب حركاتها، وفي الوقت نفسه تصد عن طريق الاباحية الصرفة التي توحي بها الرجال والنساء على حد سواء. وليس في الامكان اخراج تحية عن سياقها الطبيعي في كاباريهات القاهرة ومسارحها وأعراسها .
فهي “محلية” تمامًا ومستعصية على النقل وغير متاحة تجاريًا الاّ في تلك الأماكن، وللفترات القصيرة لا أكثر من 20 الى 25 دقيقة التي تستغرقها وصلاتها. ان لكل ثقافة ركنها الخفي عن الثقافات الاخرى، ولا شك ان تحية كاريوكا، رغم حضورها الواسع القوي، تحتل واحدة من تلك الأمكنة في ثقافتنا.
النقطة الثانية التي فكرت بها بعد موتها هي ما يبدو لي من الضياع والتخبط في حياتها الشخصية. وربما كان هذا ينطبق على كل فنّاني العروض، الذين ما ان يقضون الفترة القصيرة التي نراهم فيها على المسرح حتى يختفون. واذا كانت التسجيلات الصوتية والبصرية تعطي العروض نوعاً من الديمومة فلا يمكن للتسجيل الميكانيكي أن يضاهي ما في العرض الحي، الذي ينطلق مرة واحدة والى الأبد، من اثارة ومخاطرة. وقضى الموسيقي غلين غولد السنين الـ16 الأخيرة من حياته محاولاً البرهنة على خطأ هذا الرأي، الى حد الادعاء ان المستمع او المشاهد الذي يملك اجهزة عرض راقية يمكن ان يشارك “في شكل خلاق” في تسجيل العرض الذي يقدمه الفنان. أي ان الاستعادة من خلال التسجيل تخفف من ندرة وسرعة زوال الطاقة الفنية الحية. وفي حال تحية على سبيل المثال فإن افلامها مسجلة على الفيديو ومتاحة في انحاء العالم العربي، لكن ماذا عن الألوف من العروض التي قدمتها من دون تسجيل، في المسرحيات والنوادي الليلية والاحتفالات وما شابه. اضافة طبعاً الى العروض التي لا تحصى في السهرات وحفلات العشاء والجلسات الخاصة مع زملائها وزميلاتها من أهل الفن. وكانت احياناً تبدو ثورية، بل حتى ماركسية، فيما بدت احياناً اخرى متملقة للفئات المسيطرة، مثلاً عندما سخرت بشدة في واحدة من مسرحياتها من الخبراء السوفيات في مصر، بسبب سياسة عبدالناصر في اخذ مصر الى ذلك المعسكر.
ربما لا نبالغ عندما نقول عنها انها كانت شخصية هدّامة، بسبب عنادها وعجرفتها في علاقاتها مع الكل، من ضمن ذلك مع نفسها. لكن اعتقد ان علاقاتها الكثيرة مع الرجال، التي اتسمت دوماً بالاعتباطية واللامبالاة، وتبديدها لماضيها الفني بحيث لم يبق عندها سيناريو أو صورة فوتوغرافية أو عقد عمل اذا كانت عندها عقود اصلاً! أو ثوب رقص أو أي شيء آخر، يوحي ببعدها الكبير عن كل ما ينم عن الاستقرار البيتي او الحياة في شكلها المادي البورجوازي، أو حتى متطلبات الراحة التي يهتم بها الكثيرون من اقرانها.
وأذكر انطباعي عندما زرتها قبل عشر سنوات، بأنها شخصية مشابهة لـ”نانا”، التي أشبعت رغباتها ثم صرفت تلك الرغبات، لكي تستطيع الجلوس مع شخص غريب عنها تماماً وارتشاف القهوة معه والتدخين واستعادة الذكريات واختلاق القصص واطلاق الكليشيهات قالت لي بـ”فصاحة” اختلط فيها الجد بالهزل: “شعوري اثناء الرقص كان أنني في معبد الفن!”، هكذا اتذكرها خلال اللقاء، شخصية مرتاحة منطلقة لكن من دون التخلي عن المراوغة والمداورة. يا لها من امرأة!
النقطة الثالثة والأخيرة هي ان حياة تحية وموتها يرمزان الى ذلك الجزء الكبير من حياتنا في تلك البقعة من العالم الذي ينقضي من دون تسجيل او حفظ، رغم اشرطة الفيديو عنها التي لا شك انها ستنتشر في شكل اوسع الآن، والمواسم الفنية التي تستعيد افلامها، واحتفالات التأبين حين يتبارى المتكلمون في امتداحها، وهو ما حرمت منه منافستها العظيمة سامية جمال، التي حظرت السلطات جنازتها قبل سنوات.
وليس هناك، والأرجح اننا لن نرى مستقبلاً، سجل كامل بافلام تحية أو فهرس بالكتابات عنها او سيرة لحياتها. ولا يقتصر هذا النقص على حياة واعمال الافراد، لان كل البلاد العربية التي اعرف لا تملك دوائر حقيقية للمحفوظات او مكاتب للسجلات العامة أو مكتبات رسمية، كما ليست لها سيطرة كافية على معالمها وآثارها وتواريخ مدنها والاعمال الفنية المعمارية فيها مثل الجوامع والقصور والمدارس.
غير ان هذا لا يدعونا الى اتخاذ موقف الوعظ الاخلاقي، مثل العبرة التي استخلصها الشاعر شيلي ازاء حطام تمثال اوزيماندياس، بل نشعر ان تاريخاً متدفقاً غنياً يبقى خارج الصفحة، بعيداً عن الأعين والمسامع، بعيداً عن التناول، حيث يتعرض اكثره للضياع. ويبدو لي ان تحية تجسد هذه الحياة الهامشية التي يحياها العرب اليوم. ذلك ان معظم تاريخنا من كتابة الاجانب والباحثين الزائرين وعملاء الاستخبارات، فيما نكتفي بالعيش معتمدين في تقدمنا نحو المستقبل على ذاكرة شخصية وعامة يعتريمها الغموض والاضطراب، لدرجة انهما احياناً لا تتجاوزان تناقل الاشاعات، وفي كنف العائلة والمحيط الاجتماعي المحدود. الصفة العظيمة في تحية كانت شهوانيتها، او تلك الجذوة منها التي نتذكرها خالية من التعقيد ومتناسقة تماما مع نظرة المشاهدين اليها نظرة التشهي البدائي عند البعض، ونظرة التشـــوق الراقي عند متذوقــــي الرقـــص التي تشابهها في سرعة الزوال والبراءة مـــن التهديد. اللـــذة الآن، ثــــم لاشيء! اتساءل أحيانًا أي حياة ستكون لها بعـــد موتها.
بقلم/ ادوارد سعيد
………………………………………
نشر هذا المقال لإدوارد سعيد، أستاذ الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، في العدد 450
من جريدة الأهرام ويكلي، 7 أكتوبر 1999، ونشرت جريدة الحياة اللندنية ترجمة للمقال في العاشر من أكتوبر 1999، لكنها لم تذكر المترجم.
Average Rating