مسرحية “عيلة اتعمل لها بلوك” كما رأها أشرف الخمايسي

Read Time:9 Minute, 3 Second

منحني صديقي الجميل دكتور “حلمي جلال” دعوتين ثمينتين لحضور مسرحية “عيلة اتعمل لها بلوك”، بطولة الفنان “محمد صبحي”، بمشاركة كوكبة من الممثلين والممثلات الشباب الرائعين، ليسوا أصحاب أسماء رنانة في عالم الفن، منهم صاحب الدعوتين، الفنان “حلمي جلال”، الذي فاض كرمه، فلم يكتف بمنحي هاتين الدعوتين الثمينتين، بل اصطحبني بسيارته، رفقة صديقي “محمد أبو كاشف” إلى مكان عرض المسرحية، بمسرح “محمد صبحي”، هناك، في مدينة “سنبل”، خارج “القاهرة” بمسافة 30 كيلو تقريبا، على الطريق الصحراوي إلى “الإسكندرية”.

وجيلنا يعرف جيدا من هو “سنبل”. إنه بطل مسلسل “رحلة المليون”، الذي أعتبره أحد أشهر المسلسلات المصرية وأهمها في تاريخ الدراما التلفزيونية، وكان “محمد صبحي” يؤدي شخصية “سنبل”.

داخل قاعة الانتظار ـ قبل العرض ـ نقلت بصري، وقلبي أيضا، بين عشرات الصور الأبيض وأسود لممثلين وممثلات قدامي، ينتمون لأجيال عدة، جميعهم طلعنا على أعمالهم، وجميعهم انتقل إلى العالم الآخر، مع ذلك لا تزال أعمالهم تعرض على شاشات الفضائيات، يشاهدها جيلنا بنفس الشغف القديم، في ذات الوقت تلقى نفس الاهتمام من الأجيال الشابة إذا أتيحت لهم فرصة مشاهدتها.

 

هؤلاء من صنعوا قوة “مصر” الناعمة في الفن سني الستينيات والسبعينيات وإلى الثمانينيات والتسعينيات. أشك أن تمتلك دولة عربية واحدة، مشرقية أو مغربية، خليجية أو متوسطية، شامية أو يمنية، هذا العدد الكبير من هؤلاء الممثلين العمالقة. وتساءلت: هل في جعبة السينما المصرية المعاصرة فنانون أو فنانات يمكنهم الإعداد لقوة ناعمة تساوي ربع قوة أصحاب هذه الصور؟ إن قوة هؤلاء الراحلين لا زالت تتجاوز قوة المعاصرين بنسب مضاعفة.

 

ولا أرغب في ظلم الممثلين والممثلات المصريين المعاصرين في إمكانياتهم التمثيلية، لكن بكل تأكيد أوجه أصبع الإدانة للمنظومة الفنية، إذ لم يعد لدينا منتج يمول القيمة، ولا مخرج يبدع للقيمة، ولا كاتب سيناريو يكتب للقيمة، الجميع يعملون لأهداف تقودها غرائزهم، لا ضمائرهم، ما نتج عنه تذييل مصر، جعلوها ذيلا، بعد أن كانت رأسا. العجيب أن هؤلاء المُذيِّلين أكثر المصريين تشدقا بالوطنية !

 

“محمد صبحي” واحد من كوكبة الفنانين المصريين المبدعين لا شك، ولو وضعت قائمة لأهم عشرة فنانين مصريين قاطبة سيكون “محمد صبحي” أحدهم، ولو وضعت قائمة للخمسة الفنانين المسرحيين المصريين الأهم على الإطلاق سيكون “محمد صبحي” أحدهم، وهو يعمل الآن في صمت، ولا أظنه يعمل طموحا في إصلاح المنظومة الفنية، فالخلل استفحل للحد الذي لا يكاد يرى الإنسان معه أملا في الأفق، أو وميضا في النفق، ربما يعمل كي لا يستسلم، التحدي، التمرد، في رسالة مفادها: لن نسقط جميعنا، سيبقى البعض على الشرف الهاري، يناضل كي لا يسقط.

 

فهمت من الفنان “حلمي جلال” كيف أن الأستاذ يقوم بإعداد كورسات مجانية، يتخرج منها ممثلون وممثلات، الناجحون بالنهاية يمثلون معه مسرحيته، ويتقاضون أجورهم بشكل فوري ومحترم، أي: لا مجال للمن الذي هو منهج بعض الكبار (الصغار) إذا مدوا يد العون للناشئة: احمد ربنا إنك وانت لسه مغمور بتمثل مع “محمد صبحي”، كمان عايز فلوس!

 

مسرحية “عيلة اتعمل لها بلوك” تحمل جينات “محمد صبحي” الفنية المعروفة، ذلك الخلط الممتاز بين الفكاهة والجد، تلك الصدمة المباغتة التي تستذرف دمعك بمشهد حزين، فتخلطه فورا بدموع الضحك لمشهد مرح. وبينما يدير رأس المشاهد باتجاه عشرات من دروب الفساد بقوة وشجاعة، ذلك الفساد الذي لن تكون نتيجته الحتمية سوى سقوط الوطن، فإنه، في ذات الوقت، يستنهض همته كي يقوم بدوره في إنقاذ القيمة، المبدأ، الوطن.

لماذا “محمد صبحي” مختلف، وفارق، ومهم؟

استمع لأي فنان عظيم تدرك فورا سبب عظمته، ومفارقته، وأهميته.

إنها الثقافة. الوعي. إدراك الشخصية القومية والهوية الوطنية، والتمسك بما يجعل خصوصيات ومكونات هذه الشخصية مصانة ومحفوظة، مع النداء بضرورة التطوير والتحديث. “محمد صبحي” يمثل جميع ذلك، فنان على قدر كبير من الثقافة، ظهر جليا في “عيلة اتعمل لها بلوك”، التي بدأت بمشهد سينمائي على شاشة عرض كبيرة ملأت المسرح، لأسرة مصرية في 2127م، لقطة سوداوية، يخرجون من توابيت كأنها توابيت الموتى، هم أحياء، لكنهم يعيشون في توابيت منعزلة، تقودهم المنظومات الإلكترونية، فقدوا دف الأسماء، فكل شخص منهم هويته رقمية، يُنادى برقم. أحدهم يبحث في الماضي عن كيف عاش الإنسان، فيعود ببحثه قرنين من الزمان. لتبدأ المسرحية الفعلية بمشهد لأسرة مصرية أيام الاحتلال الإنجليزي، وصورة على الجدار لـ”سعد زغلول”، وديكور معبر عن ذلك الزمان العتيق الجميل، ظهر في الديكور رامزان، ستظل لهما دلالتهما المستمرة طول المسرحية، الأول: المكتبة. والثاني: جهاز التسلية الإلكتروني، وكان أيام سعد زغلول: “الجراموفون”.

كانت الأسرة المصرية راقية، التحرش بالأنثى ليس أكثر من إلقاء تحية: بونسوار. والتشاتم بين أفراد الأسرة عبارة عن كلمات فصيحة محترمة، والغناء راق، وعندما حاولت إحدى بنات الأسرة تشغيل “الجراموفون” لتسمع إحدى الاسطوانات الغنائية، حذرها الأب من أن هذا الجهاز، الاختراع الحديث، قد يقضي على الترابط الأسري، لذلك يفضل لو يُستمع إليه ساعة واحدة فقط يوميا. ثم نكتشف وجود رامز ثالث بسيط وعابر، لكنه نافذ الدلالة، هذا الطبق الذي كانت السر القديمة تتهاداه فيما بينها، الطبق العامر بطبيخ اليوم، أو بحلوى اليوم، لا بد للأسرة المصرية من أن تشاركه أسر الجيرة، ثم لا بد من أن تقوم أسر الجيرة بإعادة الطبق عامرا بما هو أثمن وأوفر مما أهدي إليها فيه. الرامز الدال على مستوى الكرم والرحابة في الأسرة أيام “سعد زغلول”.

 

يتغير الديكور ليقدم لنا المواصفات البصرية للأسرة المصرية أيام “جمال عبدالناصر”، لقد صار الابن أبا، صورة “جمال” استبدلت بصورة “سعد زغلول”، والتلفزيون بالجراموفون، والتشاتم صار أكثر وقاحة، والغزل في الشوارع، يندهش الأب لكم الابتذال، رفع الأسعار، لنكتشف وجود رامز رابع له دلالته القاطعة أيضا، إنه: سعر الدولار؛ الذي يرتفع في كل جيل، وكل جيل يندهش لارتفاعه الجنوني، البيضة بخمسة مليم، وكيلوا اللحمة بـ38 قرش تقريبا، وهكذا. لا يترك “محمد صبحي” هذا الرامز يمر مرور الكرام، فلا بد له من الغمز واللمز كي نقارن بالزمن المعاصر، فيقول بسخرية: “الحكومة بريئة من ارتفاع الأسعار، ده جشع التجار!”. ثم يتكلم باستهجان عن عنق الزجاجة الذي تعد الحكومة الشعب باقتراب الخروج منه. لكن، ومع كل تدنيات عصر “جمال عبدالناصر”، تظل المكتبة موجودة داخل بيت الأسرة، فيها كتب قيمة لأدباء مصر العظام، الذين صنعوا بدورهم قوتها الناعمة الثقافية. في هذا المشهد يلقي “محمد صبحي” بجملة لها بعدها العميق في فلسفة السياسة، وانتقاء مثل هذه الجمل المُفلسَفة نمط صُبحاوي “نسبة إلى صبحي” بحت، يقول مفلسفا حب الجماهير لجمال: “الشعب المصري لما يحب مصر يحب رئيسها، مش العكس”. ولن يحب الشعب مصر إلا إذا تولى قيادها رئيس يقدم للشعب، وقدم “جمال” الكثير للمصريين، المصانع الثقيلة، التعليم، الصحة، الزراعة، السد العالي، ما ساهم في راحة المواطن المصري، فأحب رئيسه، بكاه بالملايين يوم رحيله. كل ذلك لا ينفي أن الأسرة المصرية أيام “جمال” لم تعد تعيد الطبق وافرا لأسرة الجيرة، بل بالكاد يحتوي على نفس الكمية.

 

يتغير الديكور بمواصفات الأسرة المصرية أيام “السادات”، صورة الزعيم “المؤمن” استبدلت بصورة الزعيم “حبيب الملايين”، جهاز الفيديو استبدل بالتلفزيون، الهاتف الأرضي دخل البيت، التشاتم بين الأبناء تصاعد إلى حد الاشتباك والتقاتل بالأيدي، البيضة بخمسة وعشرين قرش تقريبا، والدولار بتلاتة جنيه وحاجة، ارتفاع الأسعار جنوني، و”يا سيد بيه يا سيد بيه .. كيلو اللحمة بقا بجنيه”، و”محمد صبحي” يغمز ويلمز، الانفتاح، الإلحاح في الأسرة زاد حول ضرورة بيع المكتبة، فهي قطعة ديكور عتيقة، لا لزوم لها في زمان الانفتاح، القبح الفني يستشري، الغناء أداء، الرشوة تستفحل، الأسرة المصرية تدخل المنعطف الحاد باتجاه إعلاء كل ما هو مادي، وإدناء كل ما هو روحي، مرحبا بكم في زمن الانفتاح. حيث “اللي معاه قرش يسوى قرش”. و”اللي معاه فلوس على راسه الرجال تبوس.. واللي من بلا فلوس على راسه الرجال تدوس”. يتطور حال الشح لدى الأسرة المصرية المهداة بالطبق، إنها لا تعيده لأسرة الجيرة وافرا، أو مكافئا، بل تعيده فارغا! وعلى الشاشة في خلفية المسرح يظهر الزعيم الجديد “حسني مبارك”، صاحب أول ضربة جوية فتحت باب الحرية، ينعي إلى الشعب المصري والعالم أجمع الرئيس قائد الحرب والسلام، مغتالا بذات القوة التي سمنها لتحميه، سواء كانت قوة الجيش، أو قوة التيار الديني. ويتم إعلان حرب أكتوبر آخر الحروب، وأننا في عصر السلام، هكذا يفتح الباب واسعا أمام المادية، ثم مع الانفتاح والسلام، وجميع ما يمكن اعتباره مسببات الرخاء الاقتصادي، تظل الحكومة المصرية تبرر لشعبها بأنه في مرحلة عبور عنق الزجاجة.

“محمد صبحي” رائع في “الترميز” روعته في “الكشف”.

يتغير الديكور بمواصفات الأسرة المصرية أيام …

أيام من؟!

لقد ظهر ديكور جدران البيت خاليا من أي صورة دالة على تسيد الزعيم الجديد، كما خلا المكان المخصص للمكتبة من المكتبة! لكن الخطاب المتبادل بين افراد الأسرة يحيل إلى ما حفظه الوعي الجمعي المصري مؤخرا، يرشدنا إلى الزعيم الجديد، فـ”محمد صبحي” يؤكد على أن “مصر” تعوم على الخيرات، وأنها “مش فقيرة”، وأن الطريقة التي يجب أن نواجه بها ارتفاع الأسعاربسيطة: “الحاجة اللي تغلى ماتشتروهاش، سهله أهيه”. هكذا بدون أي صورة على الجدار عرفنا زعيم الجيل الأحدث من أجيال الأسرة المصرية.

الهواتف المحمولة استبدلت بالهواتف الأرضية، أفراد الأسرة انفصل بعضهم عن بعض تماما، التحموا تماما بآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي، رب الأسرة كيوت، مودرن، مدلدل، فاقد القدرة على قيادة أسرته، أو توجيهها، الخلاف بين الأبناء يتطور درجة إشهار المسدسات والسكاكين، ثم يتكشف الأمر عن رامز آخر، يتضح بقوة في أحد المشاهد الأخيرة: الخادمة. التي بدأت طيبة مطيعة في الأسرة، تعرف حدود وضعها وتلتزمها، فتصير وكأنها واحدة من الأسرة المصرية “الزغلولية”، وانتهت ـ في جيلها المعاصر ـ إلى أن تكون متعجرفة، لا تطيع مخدومها، بل هي من تنهاه وتامره، إذ لم تعد “خادمة” من وجهة نظرها، أو “شغالة”، لقد تعلمت، وهي تعمل بشهادتها، لقد صارت “مديرة منزل”، رامز يلفت انتباهنا إلى جميع التحولات التي تسببت في تخريب العلاقات المثمرة بين أفراد الأسرة الواحدة، وكذلك بين أفراد المجتمع المصري كله، باسم الشهادة المدرسية، وبفعل تعليم يفتقد إلى التربية. أما الطبق، فإن أسرة الجيرة تدعي أنه تكسَّر، تحطم، فلا تعيده وافرا ولا مكافئا ولا فارغا، إنها تنهبه، ثم في مشهد لاحق ـ يؤكد على تنامي القبح ـ تقوم أسرة الجيرة بالنصب على الأسرة صاحبة الطبق، مستهدفة الحصول على ثلاثة أطباق أخرى “عشان تكمل الطقم”. إنه التعدي الذي صار سلوكا قويا وقاهرا عند مصريي العقدين الأخيرين، سلوك المتزاحمين في عنق الزجاجة.

اخيرا يبشرنا “محمد صبحي” بخروج الشعب من عنق الزجاجة، لكن ليس إلى خارجها، بل إلى قعرها!

لقد سقطنا بالأخير في عنق الزجاجة. حتى أن رب الأسرة صار مستهدفا من أفراد أسرته، استهداف مادي بحت، درجة أنه فيما يتمدد مريضا، يسمع حوارات بناته وإبنه المتبادلة، يقترحون كيفيات للاستفادة من جثته بعد وفاته، عبر تجارة بيع الأعضاء.

انتهت العائلة المصرية إلى “البلوك”، وكيف لا تنتهي إلى الانغلاق، أو النفي، أو الضآلة، إذا انتهى الأمر بربها، كبيرها، قائدها، إلى التصاغر أمام المادة، أن يكون ضحية الاقتصاد، أن يضل بضغوطات صناعة حكومية نظامية بحتة. وأن يقبل أفراد الأسرة استعباد المادة ـ اقتصادا وعلما تكنولوجيا ـ بأريحية وفرح، غير منتبهين إلى أنهم معتقلون في قعر زجاجة، هرستهم “السوشيال ميديا”، مفرقة الجماعات، وهادمة اللذات.

لا يفوتني الإشارة إلى أن لـ”محمد صبحي” قناعة واضحة في 25 يناير: إنها تخريب.

والحق: إنها كذلك؛ ولا تشفع النيات الحسنة في إزاحة تلك الأيام عن وصفها بأنها تخريب، فمن يتقدم إلى جهاز معطوب بنية إصلاحه، مع افتقاده لخطة إصلاح دقيقة مضمونة فإنه يساهم في تخريب الجهاز وأعطابه بشكل اكبر. وإذا لم تؤد بنا 25 يناير سوى إلى الاعتقال في قعر الزجاجة، فهي تخريب بنوايا جماهيرية حسنة، ربما هذا هو أفضل وصف لها من الزاوية الجماهيرية، لكن من زاوية عميقة، فثمة نوايا بالغة السوء، ومخربون حقيقيون، خونة أوطان على مستوى عال، وراء الستر، خططوا ونفذوا 25 يناير.

تنتهي المسرحية بما يشبه الأوبريت الغنائي، توجه من خلاله دعوة حماسية للنهوض، لا بـ”مصر” وحدها، بل ببلاد الوطن العربي كله، وكم أعشق الفنان، أو الأديب، أو المفكر، أو أي إنسان عربي، يعتز بوحدة وطننا العربي، ينادي بها، ويعمل لها.

“عيلة اتعمل لها بلوك” مسرحية من ثلاث ساعات ونصف تقريبا عبارة عن متعة صافية سلسبيل.

بقلم الروائي / أشرف الخمايسي

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *