على أبواب ذكرى “ثورة يوليو”: أسئلة مبطّنة وإجابات صريحة
عدنان برجي يكتب:
قبل شهر، وبالتحديد لمناسبة الذكرى السادسة والخمسين لنكسة حزيران، سألني صديق سؤال مبطن: ماذا يعني لك المشروع القومي العربي الذي عمل على تجسيده جمال عبد الناصر؟. وهل بالفعل تُرجم هذا المشروع بشكل عملي سياسيًا وميدانيًا بالمعنى القومي والعربي؟. وماذا تبقى من إرثه ( المشروع وعبد الناصر معًا) اليوم؟.
أجبت، وأود ان أشرككم في الجواب ، آملًا منكم نقاشًا صريحًا وواقعيًا وموضوعيًا.
نعم إنها الذكرى 56 لنكسة حزيران، لكنها أيضًا الذكرى الخمسين لانتصار تشرين المجيد!. وفي هذا المجال يحضرني بعض من مقدّمة كتاب “الانفجار” للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل اذ يقول:” ان قصّة 5 يونيو سنة 1967، ليست قصّة أيام ستة اندفع فيها القتال ثم ساد وقف اطلاق النار بعده، وإنما القصّة قبل ذلك بكثير وبعده بكثير، لأن وقائع التاريخ الكبرى لا تهبط على الموقع مثل قوات المظلّات وهو ( أي هيكل) ينصح ان تقع عيون المهتّمين بمسيرة ” السلام على بعض صفحاته( كتاب الانفجار) لعلّهم يرون شعاع ضوء يكشف ويبين”.
من جهتي أرى ان انتصار تشرين أزال آثار هزيمة حزيران، والدليل انه منذ ذلك الانتصار المجيد بدأت مسيرة التراجع في الكيان الغاصب، وأكبر دليل هو ما نشهده اليوم من تنامي روح المقاومة في داخل فلسطين وعلى امتداد الأمة، على الرغم من تطبيع اكثر من نظام عربي رسمي مع هذا الكيان. ان معركة جنين الأخيرة، وقبلها معارك كثيرة، تظهر مدى التراجع الذي اصاب البنية العسكرية والقتالية عند العدو، وتظهر في الوقت عينه حجم ارادة التحدي والمواجهة عند الشباب الفلسطيني بخاصة والعربي بعامة.
ان معركة ال 67 كانت معركة في حرب، كما كانت معركة “أُحد” في حرب انتشار الإسلام. وفي الحروب هناك معارك خاسرة ومعارك رابحة. المهم ان لا تُهزم الإرادة إذا انهزم السلاح، وهذا ما جرى تمامًا بعد النكسة وجرى عكسه بعد انتصار تشرين 1973، فقد انتصر السلاح في تشرين وانهزمت الإرادة باتفاقيات كمب ديفيد الإستسلامية.
لقد تحمل عبد الناصر المسؤوليّة بشجاعة نادرة وتنحّى عن المسؤوليّة، لكن جماهير الأمة في 9 و10 حزيران أعادته الى موقعه لأنها ادركت بفطرتها ان المطلوب هزيمة الأمّة، وليس هزيمة القائد فقط او الاكتفاء باحتلال اراض عربية شاسعة، او حتى الاكتفاء بخروج مصر من دائرة الصراع. وهذا ما أدركه عبد الناصر فكان بيان 30 مارس بمثابة استراتيجيّة للتحرير، وكانت حرب الاستنزاف المقدّمة الطبيعية لانتصار تشرين وللإعلان أمام العالم ان الإرادة العربية لم تُهزم.
ماذا يعني لي المشروع القومي العربي؟ ببساطة يعني السبيل لتخليص الأمة من التجزئة والتخلف وهما الهدفان الذي وضعهما الاستعمار قبل وجود الصهيونية، ثم تعاون الاستعمار والصهيونية على تجسيدهما بإحلال جسم غريب في فلسطين يفصل مشرق الأمّة عن مغربها ويؤبّد تخلفها لنهب مواردها وثرواتها البشرية والماديّة.
ان المشروع القومي العربي، لم يبدأ مع جمال عبد الناصر، ولم ولن ينتهي برحيله. فالعروبة والإسلام وهما ركنا المشروع فكريًا، كانا قبل ثورة يوليو وستبقيان بعد الانقلاب على الثورة. كذلك مناهضة المستعمرين والغزاة هي في صلب التكوين الفكري الجهادي عند أحرار العرب والعالم. كما أن السعي الى التطوير والتقدم وامتلاك اسباب القوة هي من الأمور الفطرية عند البشر. وهذا ما يسعى اليه المشروع القومي العربي. فهو مشروعٌ تحرريّ وليس مشروعًا للعدوان على الآخرين.
ان الأمّة العربية بما تملك من موقع استراتيجي، ومن موارد بشريّة وماديّة ومن ثروات كانت دائمًا وستبقى الى أبد الدهر محط أطماع القوى الاستعماريّة، لذلك فإمّا ان تتوحد لتقوى وتجابه، وإمّا ان تتفكك لتكون عرضة للأطماع الاستعماريّة.
بعد رحيل القائد جمال عبد الناصر جُربّت مشاريع مغايرة للمشروع القومي العربي، فهل استطاع أي منها الصمود أمام تهديد اأو ترغيب القوى الاستعمارية؟. في المشروع القومي لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ولا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف. فهل استطاعت المفاوضات ومسارات التطبيع وتوقيع الاتفاقيات مع العدو تحرير شبر واحد، او مجرد وضع حد للاستيطان؟.
ان تجربة لبنان بتحرير أرضه دون قيد او شرط نتيجة نضال وتضحيات المقاومة أثبتت صحة وسلامة المشروع القومي العربي.
هل طُبّق المشروع ميدانيًا وعمليًا؟: الجواب قطعًا لا. فحتى في وجود قائد المشروع كان العدوان الثلاثي (فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني) على مصر، وكانت محاربة الوحدة بين سوريا ومصر واسقاطها، وكان مشروع ايزنهار وحلف بغداد والحلف الاسلامي، وتقسيم اليمن والتحالف الصهيوني مع قوى التطرف والانعزال. بمعنى أنهم لم يتركوا للرجل فرصة التقاط إنفاسه، ومع ذلك كان سدًا أمام الهجمة التي نشهدها حاليًا، بكل ما فيها من بعث لقوى التطرف والانفصال، وإحياء للعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية. لكن على الرغم من كل ذلك، فقد تحررت في ظل ثورة يوليو، بلدان عربيّة من نير الاستعمار وبلدان افريقية، كما ارتفعت راية عدم الانحياز وكسر احتكار السلاح، ونهضت الصناعة بمصر وكذلك الزراعة، ونهض التعليم، وكانت معدلات التنمية تزيد على ال5% دائمًا. وعلى الرغم من هزيمة حزيران وحرب الاستنزاف والإعداد لحرب تشرين، فان مصر لم تكن مديونة. وكانت العدالة الاجتماعية بمستوى جيد وحالة المواطن المصري الاجتماعية افضل من حالته الآن.
وماذا تبقى من إرثه ( المشروع وعبد الناصر معًا) اليوم؟.
بقي المشروع القومي العربي، الذي عبّر عنه عبد الناصر بوضوح كلّي ومارسه لسنوات قليلة، حيًا عند كل انسان عروبيّ الانتماء والهوى والهويّة، وما زالت الحركات القوميّة العربيّة وعلى الرغم من التحديّات الجسام التي واجهتها وتواجهها صامدة وتحقق انجازات على كثر من صعيد وفي أكثر من بلد عربي.
ان فشل اي حزب او جهة او نظام في التعبير السليم عن المشروع القومي العربي، لا يعني فشل المشروع نفسه، انما الفشل يتحمله من قاموا بالعمل نتيجة اسلوب فاشل او ممارسات خاطئة، او نتيجة تحديات قاهرة.
ان المقاومة، وان تعدّدت اسماؤها والقائمون بها وعليها، هي جزء أساس من المشروع القومي العربي، كذلك مقاومة التطبيع ورفض الاستسلام ومواجهة الاستعمار، كلها تشكل جزءًا أساس من المشروع القومي العربي، فمبجرد ان تبقى مقاومة ما، يعني ان المشروع القومي وإرث جمال عبد الناصر لم يمت ولم يندثر. وها نحن على ابواب الذكرى 71 لثورة يوليو، ولهذه المناسبة ينعقد المؤتمر القومي العربي في بيروت بين 29 و30 تموز الحالي، وتشارك فيه قيادات نضالية عربية من مختلف الدول العربية، وهم يأتون على حسابهم الشخصي ويتحملون كامل تكاليف السفر والإقامة ليؤكدوا ايمانهم بحتمية انتصار المشروع القومي العربي.
اما عبد الناصر يكفه شرفًا وسموًا ورفعةً أنه يقض مضاجع الاستعمار والصهيونية بعد ثلاثة وخمسون سنة على رحيله، وهو بهذا المعنى باق اكثر من آخرين أحياء. ان مصير كل انسان الموت أما المبادئ فهي منارات تحملها الأجيال حتى يتحقق المراد منها.
* مدير “المركز الوطني للدراسات” – بيروت
بيروت في 10/7/2023
Average Rating