بلا سورة ” المغرب” بلا سورة ” العشا”!!
دخل مدرس الفصل الأستاذ موسى الذى لم نعرف غيره، نتلقى منه دروس القراءة والحساب والدين، لم تكن لنا كتب نقرأ منها، طلب منا حفظ سورة “العصر” التى سميتحننا فيها غدا، قرأها أمامنا عدة مرات، وتوعد من لا يحفظ بالضرب المهلك.
كان الأستاذ موسى قد أنهى لتوه خدمته العسكرية، حازم متجهم، لا يكف عن الصراخ وتوزيع الشتائم علينا بسبب وفى الغالب بدون.
فى طريق عودتنا إلى بيوتنا عبر طريق ترابى كان يتحول إلى نهر من الطين – الروبة – اتفقنا على الذهاب إلى الشيخ نور فى مسجد القرية، صلينا خلفه، وقبل أن يغلق باب المنبر الذى كان يحتفظ فيه بماكينة الصوت والميكروفون الذى يؤذن من خلاله، جلسنا حوله دون استئذان.
لم نمنحه فرصة لا للرفض ولا للدهشة.
قلنا له: عاوزين نحفظ سورة “المغرب”.
ابتسم، وقال دون اهتمام: مفيش فى القرآن سورة اسمها المغرب… روح يا ابنى انت وهو.
الخوف من العصا التى تنتظرنا جعلنا نصر على أن السورة اسمها “المغرب”، طلب منا أن نذكر له شيئا منها، لم نستطع، حاولنا أكثر من مرة، فشلنا، أصررنا على أنها سورة “المغرب”، بدأ يخرج عن شعوره، أمسكنا بجلبابه فى استعطاف، طردنا من المسجد شر طردة: قوم من هنا يا ابن الكلب انت وهو… بلا سورة “المغرب” بلا سورة “العشا”.
لا أعرف ما الذى جعله يصعد بالفروض إلى أعلى فقال: بلا سورة “العشا”، لماذا لم يهبط بها إلى أسفل فيقول: بلا سورة “العصر”؟
من يدرى ربما تذكرنا السورة المطلوبة.
خرجنا من المسجد مرعوبين من عصا موسى التى كان يلفها بطبقات من ” البلاستر” الأسود، فتزيد قسوتها بعد اشتداد عودها… تخيلنا المجزرة التى سيقيمها لكل من تخاذل عن الحفظ.
حسم أحدنا الأمر: هو يعنى الأستاذ موسى هيعرف أكتر من الشيخ نور اللى حافظ القرآن كله، بكره نقول له الشيخ نور قال لنا إن مفيش سورة اسمها المغرب، ولو عاوز يعبط حد يبقى يعبط الشيخ نور.
نظر إلينا الزميل وكأنه يستجدى موافقتنا على فكرته وما قاله: مش كده برضه؟
ولم يكن أمامنا إلا أن نقول له: أه طبعا كده… هو كده بالظبط.
نمت نصف مؤرق نصف مطمئن، فإذا لم تكن هناك سورة اسمها “المغرب”، فما الذى قرأه الأستاذ موسى أمامنا ؟ وهل يمكن أن يخفى الشيخ نور سورة كاملة من القرآن حتى يتخفف من إلحاح شوية عيال يحيطون به وفى عيونهم نظرات خوف وإشفاق مما ينتظرهم؟
لم أكن أفارق سرير جدتى التى مات عنها زوجها قبل أن أعرفه، اعتادت مغادرة فراشها قبل صلاة الفجر كل يوم تتوضأ وتصلى وتقرأ بعض آيات من القرآن، وبينما تتخطفنى لذة النوم التى يقطعها صوتها، وجدتها تقرأ ” والعصر، إن الإنسان لفى خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.
قفزت من فراشى وكأن مسا أصابني، أمسكت بيدها: هى دى السورة اللى عايز احفظها.
لم أتركها إلا بعد أن حفظت الآيات القصيرة ورددتها أمامها أكثر من مرة، ومن شدة فرحى لم أعاود النوم مرة أخرى.
كان ما جرى انجازا عظيما، عرفت قيمته عندما رأيت زملائى وهم يتلقون علقة محترمة من الأستاذ موسى، الذى أصر على أنهم يكذبون، ويخدعونه بكلام الشيخ نور الذى أنكر وجود سورة “العصر”، واستشهد بى، فقد حفظت وسمعت رغم أننى كنت معهم واستشهدوا بى فلم أنقذهم، فقد كان كافيا جدا بالنسبة لى أننى أنقذت نفسى.
لم يصدق زملائى الحكاية التى رويتها لهم عن معجزة جدتى، شككوا فى نواياى، اتهمونى بأنى عدت إلى الشيخ نور مرة أخرى وحفظت على يديه، قاطعونى لأيام لتتوتر علاقتى بالله.
لقد قابلته بين يدى جدتى بعد صلاة الفجر، الله المنقذ الرحيم، الذى أرسل لى آية من آياته جعلتنى أنجو من ضرب مبرح، كان يمكن أن تنام جدتى ولا تستيقظ لصلاتها، كان يمكن أن تقرأ أى سورة أخرى غير سورة العصر، كان يمكن أن تتشاغل عنى فلا تهتم بمأساتى.
لكن شيئا من هذا لم يحدث، فالله يرانى حتما، قطعت طريقى إلى المدرسة وأنا أختلس النظر إلى السماء: شكرا يارب.
ما الذى جرى له بعد ذلك، لماذا لا يظهر لزملائى بأى آية من آياته ليقنعهم أنى لا أكذب عليهم أو أخدعهم، لماذا يتركنى متهما بالخيانة أنا الذى لم أقترف شيئا منها أبدا؟
لم أتلق إجابة منه… فاكتفيت بنظرات عتاب أرسلتها إلى السماء دون رد.
بقلم: محمد الباز
* من كتاب ” كأنه أنا”
Average Rating