حتى الشوارب لها تاريخ !
من الكتب التي قرأتها وأنا في مطلع الشباب، وفقدت كل شئ يدلني عليها كتاب عن اللحى والشوارب، واشكالها وتطورها، وكيف أن اللحية في العصر العثماني كانت دليل الوجاهة الاجتماعية. فإذا طبقنا هذه النظرية على عصرنا الحالي سنجد الشاب الذي يلتحق حديثا بالوظيفة ذا لحية صغيرة. فإذا ترقى كبرت لحيته فإذا ماوصل الى أعلى المناصب صارت لحيته أكبر اللحى.
ولا يجوز في هذا الزمن ان تكبر لحية القاضي عن لحية قاضي القضاة. واذا حدث هذا حق لقاضي القضاة أن يشكو الى صاحب الأمر. ولذلك كان من العقوبات المعترف بها (نتف) اللحية. وكان لهذه العقوبة مغزى مزدوج، فهي تصغير للحية المعاقب أو ربما ازالتها تماما، وأيضا تنتج آلاما مبرحة. وكان المعاقب يحبس نفسه بعد تنفيذ العقوبة حتى تنمو لحيته مرة أخرى وهاهو مغزى آخر وهو أن الرجل يحبس نفسه بنفسه.
وكانت اللحية شيئا محترما يقترب احترامها من القداسة، فكان الرجل يقسم بلحيته، ومن الطريف اننا قد نلتقى بشخص الآن وفي القرن الواحد والعشرين يمر بيده على ذقنه ويقسم وحياة هذه! ولا ينتبه الى ان (هذه) ليست موجودة وانه يقسم بلحيته وهو حليقها.
ولكن القسم وأسلوبه متوارث من زمن بعيد. وهذا ليس غريبا فكثير مما نمارسه في الحياة متوارث، ولو اننا فكرنا فيه لحظة لتوقفنا عنه. ومازال عمال البناء في مصر يغنون هيلا ليصا وهي أغنية فرعونية مرتبطة بالغناء ورغم الجهود الابداعية لتغيير أغنية البناء الا أن الكلمات الفرعونية مازالت موجودة. ونحن متأكدون من محاولات سيد درويش في تغيير أغاني البناء، فلقد عمل في صدر شبابه عاملا للبناء.
ولسنا متأكدين من محاولات المظ أول مطربة كبيرة في التاريخ الحديث، ولقد كانت على ماقيل عاملة بناء. واتمنى لو انني عرضت لك هذا الكتاب الطريف، ولكن الذاكرة لا تسعفنى بمافيه، فقد قرأته قبل ان يستخدم الناس الفيديو وقبل أن يصعد الإنسان الى الفضاء. وكان هذا كما تعرفون قبل زمن طويل. ولأنني لا أذكر بالطبع عناوين الكتب الا فيما ندر لا استطيع الحصول على الكتاب.
واسأل اصدقائي فلا يجيبني أحد. و لكن أحدهم قال انه قرأ الكتاب نفسه وانه يمتلك نسخة منه، وانه سيهديني اياها. ولم يفعل ذلك حتى الآن. وكنت عندما قرأت هذا الكتاب اقرأ لأنسى كما كان ينصحنا توفيق الحكيم. اذ كان يقول أن الأديب تصنعه ثقافة واسعة، وانه يختلف عن الباحث الذي لابد له أن يتذكر أين قرأ ما قرأ.
فالأديب يقرأ لينسى. ووصف توفيق الحكيم الاديب بأنه يقرأ كما يأكل الإنسان، انه نتاج لحم وخبز وخضراوات وحلوى.. الخ، ولكن هل هذه الاشياء هضمت جيدا. ومايهمنا هو البناء الجديد الذي هو الإنسان في حالة الأكل، أو الأديب في حالة القراءة. والقراءة ليست تكديس معلومات على معلومات بل تفهم هذه المعلومات ودراستها واستخلاص نتائج منها. ومن كتاب اللحى والشوارب نصل الى انها كانت ظاهرة اجتماعية وكانت أيام الدولة العثمانية اقرب الى الرتب العسكرية التي تعطى لكل مستوى.
وفي الثلاثينيات كان للملك فؤاد شارب مميز من هذه الشوارب التي توصف بأنها يقف عليها الصقر. وربما كان هذا الشارب نتاج التراث العثماني مع الحضارة الايطالية الحديثة التي تأثر بها فؤاد أميرا ثم سلطانا ثم ملكا. وفجأة بدأت القاهرة تتحدث عن شاويش في الجيش أو الشرطة لا أذكر له الشارب نفسه. وبالطبع كان مشرعا من طرفيه.
وكان يدهن بمادة اسمها (الكوزماتيك) تجعل الشعر صلبا وكانت مادة صفراء اللون أقرب الى الورنيش. ولكن كلمة (كوزماتيك) الآن حوت كل دهون التجميل ومواده. وطلب الملك فؤاد من رجاله أن يحضروا له الشاويش المنافس له وكان الشارب طبق الأصل. وخرجت الرواية من القصر بأن الملك استقبل الشاويش أحسن استقبال وأغدق عليه. ولكن لم تكن هذه القصة بالضبط، أو لم تكن القصة كاملة، فلقد اختفى الشاويش بعدها من تحت الاضواء.
وقيل انه عندما ظهر هنا أو هناك كان يحمل شاربا متواضعا. واذكر ونحن أطفال قصصا عن الشوارب بالذات، فلقد اتينا الى الحياة بعد أن دالت دولة اللحى. ومما لا أنساه الخلاف الشديد بين شخصين هامين في احدى البلاد الصغيرة. وان كلاً منهما يكيد للآخر حتى وصلت الخلافات الى نهايتها.
وكان ذلك عندما انتظر رجال مسلحون أحد الرجلين وهو مسافر من قرية الى قرية. وهدفهم الامساك به وحلق شاربه. ولكن المسكين لم يفهم هذا. كان يسير في طريق مهجور بين حقول ممتدة، وفجأة رأى عدة رجال ملثمين يوجهون اليه بنادقهم. وبالتأكيد لم يخطر على باله أن هدفهم هو شاربه. كان متأكدا انهم يريدون قتله. وسقط الرجل على الأرض. وتقدموا لينفذوا مهمتهم وقد كفاهم شر الصراع.
وكان رجلهم في ازالة الشارب هو حلاق القرية الذي ما أن بدأ عمله حتى توقف وأعلن لهم أن الرجل قد مات. وأثبت التحقيق براءة اعداء الرجل من قتله فلقد مات بالسكتة القلبية. ولكن هل كانوا ابرياء فعلا.
عندما حكيت هذه القصة للدكتور سيد عويس عالم الاجتماع الرائد قال انه ينطبق عليهم نظرية الجرائم غير المنظورة. وكان مهتما بهذه الجرائم وكتب عنها أحد كتبه التي اثارت ضجة في الستينيات ومابعدها. ومن الطريف ان ابنة الضحية لم تقتنع ان أباها مات دون مشاركة من اعدائه.
وأخذت تتحدث فيما حدث من الناحية القانونية، وكانت قد تسربت القصة اليها، فالريف لا يخفي سرا. ولم تكن البنت قادرة على أن تجيد الحديث في القانون ولم تتخط الدراسة الثانوية. وبدأت وداد هكذا كان اسمها قصة كفاح بدأت لحصولها على الثانوية العامة ودخلت الجامعة في الوقت نفسه الذي دخلنا فيه الجامعة وان كانت أكبر منا سنا. وقد قابلتها بعد أن تخرجت واصبحت محامية شهيرة.
وكان لدي سؤالان يلحان علي منذ سنوات. قلت لها: هل حققت انتقامك؟ ضحكت وقالت: لقد بدأ الأمر انتقاما لكنني نسيت الانتقام وأنا أبحث عن ذاتي. ولكن انتظر.. قد أكون انتقمت فعلا. لقد وقع أحد أفراد العائلة في قضية كبيرة. وفوجئت بأهل المتهم يأتون إلي لم يكن دافعهم شهرتي كمحامية فقط. ولكن أيضا لأنني برأت متهما في قضية مشابهة.
ورفضت أن أترافع في قضية عدو أبي. ساعتها قلت انهم سيكونون في شك دائم ولو انني خسرت القضية سيقولون أن هذا مقصود. ولكنني الآن استطيع أن أقول انه ربما كان دافعي الانتقام. لقد تخليت عن الغريق فلم أقدم له يدي. أنا لم أقتله، لكنني لم أنقذه. وبعدها سألتها: لقد تابعت ماحدث، كيف ذاكرت مع أولادك، وكيف دخلت الجامعة في سن أكبر من بقية زملائك. وأدهشني انك بدأت هذه الرحلة بطلب الطلاق. هل الرجل يعطل تقدم زوجته؟! وضحكت وداد: لم أطلب الطلاق لكي أفعل مافعلت، بل لأسباب أخرى تماما. لكن دعني أسألك واسأل نفسي هل كنت قادرة على أن أفعل مافعلت وأنا متزوجة منه؟ وذكرتها بأن القصة كلها بدأت من شارب أبيها. وأثناء حديثها دخل رجل عرفتني به على أنه زوجها، وبالطبع كان زوجها الثاني. وأول ما لاحظته انه كان حليق الشارب!
بقلم: محفوظ عبد الرحمن
07 يونيو ٢٠٠١
Average Rating