اشرف الخمايسي يكتب عن الجزارين الأوباش
ذهبت إلى محل جزارة قريب من سكني.
تعاملت معه ـ عامنا الماضي ـ في ذبيحة خروف.
ولقي خروفي، أيامها، معاملة طيبة، برطع في ونس الحظيرة المنصوبة أوسط شارع “القدس”، الواصل بين “كعابيش” و”الأربعين” من “طوابق فيصل”، استمتع باصطحاب قطيع خراف من بني جلدته، مارس حياته كاملة، بما فيها الهيام والحب، وقد اضطر لممارسة الحب المثلي لأن الحظيرة خلت من الشياة، فأضاحي العيد كباش، وطاولات الطعام متخمة بالعلف، والطسوت عامرة بالماء، وهو طليق حر، غير مقيد، يقف حين يشاء الوقوف، يضطجع حين يشاء الاضطجاع، يبرطع حين يشاء البرطعة، فالحظيرة واسعة، رحبة، وهو طليق، ومغمور بونس.
بيد أن الدقائق الأخيرة من عمر خروفي كانت شديدة البؤس، لا لقلة طعام، أو نقص ماء، أو ضيق حظيرة، أو فقدان ونس، ولا حتى لشعوره باقتراب الموت جدا، فالخروف خروف، يمكنه الأكل والشرب والبرطعة والهيام والحب في ذات الوقت الذي يتعلق أخيه مجزوزا من صوفه، خاليا من روحه، بخطاف أعلى محل الجزارة، يقطع بالساطور حتة حتة.
دقائق خروفي الأخيرة كانت بائسة للمنتهى، فالجزار طرحه حيا، دون رحمة، في دماء خروف ذبح قبله، لم يزل ملقى أمام عينيه، لم تزل الدماء تبك من قطع رقبته، ومؤكد أن رائحتها، ولونها الأحمر القاني، مع شكل الخروف الصريع يضرب برجوله ضربا جنونيا، يشخر من رقبته المقطوعة، مشهد أفزعه للنهاية، إذ سكن خروفي تماما، وفقد القدرة على المأمأة، ودار برأسه حوله، عيناه زائغتان، منخراه اتسعا لرائحة وبخار الدم المتصاعد حوله، أقسم بالله أنه فهم ما يجري، وأنه صُرع ومات قبل أن يهجم عليه من أطاح به في الدم، وذبحه.
استأت استياء كبيرا، فالحيوانات عند من يفهم ويحس أمم أمثالنا، تشعر وتخاف وتفزع، وتفهم شيئا ما، ولديها إدراك فطري بالخطورة، فقررت عدم ذبح خروف العام المقبل ـ إذا مد الله العمر ووسع علينا ـ في محل جزارة، بل أمام العمارة التي أسكنها، وليكن ذبحا خاطفا مريحا، بأقل قدر ممكن من الخوف والفزع، غير أن الله وسع، وقدر ألا تكون ذبيحة العام المقبل ـ الذي هو عامنا هذا ـ خروفا، بل عجلا.
وقدرت أن العجول لا تذبح جماعيا مثل الخراف، فهي ضخمة، وخطيرة، والمحل أضيق من احتواء جريمة الذبح الجماعي درجة الاستحالة، بل لا بد سيكون الذبح عجلا بعد عجل، فاتفقت مع نفس الجزار، وهو رجل طيب، أمين، محترم، عِشري، دمث الأخلاق، يدير الجزارة، لا يذبح بيده، يقاول جزارين، ولم أنس لفت انتباهه إلى خطأ ذبح الخراف بشكل جماعي العام المنصرم، فأقر بحرمانية هذا الأمر، وبرره بضيق المكان، وكثرة عدد الخراف المطلوب ذبحها، وعدم صبر الزبائن.
اتفقت معه على عجل يناسبني، ودفعت له عربونه قبل يوم الأضحى بأسبوع.
مساء يوم “عرفة” أُحضِرت العجول إلى محل الجزارة، في مساحة واسعة من شارع “القدس” هيئت لاستقبال الخراف والعجول على العادة السنوية.
في العام الماضي هيئت الحظيرة، وأحضرت الخراف، قبل الذبح بأسبوعين كاملين، لم تكن الأعلاف شحت وغلا ثمنها، هذا العام فاحش الغلاء ألقى بظلاله على محلات الجزارة، بالكاد أُحضِرت الخراف قبل الذبح بأربعة أيام تقريبا، وعاشت مرتاحة في حظيرتها، طليق، تبرطع بين طاولات العلف وطسوت الماء في ونس بني الجلدة، فيما العجول أُحضرت مساء يوم “عرفة”، قبل الذبح بساعات.
والحمد لله حمدا كثيرا أن أحضِرت قبل الذبح بساعات. لا أيام!
فقد لقيت العجول ـ على مهابتها ـ معاملة غاية في السوء والبهدلة من قبل العاملين في محل الجزارة، بدأت بتقييدها إلى أماكنها بربطات شيطانية، لا يعقدها إلا إنسان سيكوباتي، قيدت العجول بحبال قصيرة للغاية، بحيث لا يستطيع أحدها التحرك أدنى حركة، رأسه في مستوى وسط بين الوقوف والإقعاء، فلا يمكنه رفعه بأي حال، يستحيل عليه أرجحته لذب الحشرات عن جسمه، ثمة عجول غميت بقماش أحاط برأسها، وأجبر جميعها على الوقوف، إذا حاول أحدها الاستلقاء حيل بينه وبين ذلك لسبب لم أفهمه، والعجل منها ليس قاهريا أو جيزاويا، بل سافر من الصعيد، أو من بلاد بحري، في رحلة شاقة، طويلة، ذاق فيها الأمرين، حيث اجبر دون أدنى شك على إتيان أفعال غريبة عن عالم العجول، ليس مدربا عليها، فضلا عن أن يعرفها، مثل ركوب الشاحنات، والنزول منها، وجلافة وقسوة وتعسف من يجبرونه على ذلك، وطوال الرحلة لا يأكل أو يشرب، وفي ذلك لا يخلو الأمر من نخسات التافهين والصعاليك والأطفال، هؤلاء ممن لا يقدرون عجول الأضاحي حق قدرها، وقدرها لو يفهمون عظيم، إنها الهَدي، هدية الإنسان لله، وكم يعظم الإنسان من شأن هديته إلى أخيه الإنسان، فكيف لا يفهم الإنسان أن تعظيم هديته إلى الله أوجب!
رأيت العجول المقيدة مساء يوم “عرفة”، ولم أنتبه لشراسة قيودها إلا صباح العيد.
بعد الانتهاء من الصلاة في ساحة شارع “القدس” مررت وأولادي بالحظيرة، فرأيت ما أحزنني للغاية، هوجة الجزارين العاصفة، وقد انطلقوا يخطفون الخراف خطفا، زوجا زوجا، يذبحونها في نفس المكان الضيق، أما العجول، فقد ناء بعضها بكلكله، استلقى على الأرض لفرط التعب والإنهاك، رغم أن القيد الشيطاني القصير لا يسمح لها باستلقاء طبيعي مريح، كان العجل المسكين يرقد على الأرض فيما رأسه مشدود إلى أعلى، عيناه جاحظتان، ولو أن أحدها تعرض لمشكلة مع قيده لمات اختناقا، دون أن يشعر به أحد!
هدي الله يتعذب ويساء إليه!
لم يكن أمام عجلي طعام، ولا شراب. ولم يكن متاحا لي لفت انتباه صاحب محل الجزارة إلى آلام هدي الله، فقد انطلقت ماكينة الذبح غير الرحيمة، والزحام أمام المحل، والرجل يلف ويدور بين الزبائن، هذا يكلمه، وتلك تستعطفه، وذلك يرجوه. لا منفذ وقتي أو مكاني يمكنني اختراقه كي ألفت نظر الرجل إلى العذاب الذي سقطت فيه عجول الهدي.
الساعة العاشرة والنصف ضحى اتصل بي الرجل، وطلب مني القدوم سريعا لحضور ذبح العجل.
في خمس دقائق كنت هناك، وأول ما هالني في المشهد عجل ذبيح، غارق في دمه، ملقى أمام عجل في قيده الشيطاني، ينظر إليه نظرة مستفهمة، حائرة، مرعوبة. لقد عاش العجل حياته بين عجول وأبقار فلم ير أحدها أحدها ملقى هكذا، برأس نصف مقطوع، يستنزف دماءه!
أدركت أن هؤلاء الجزارين أوباش، فاقدي حس وشعور، أنانيون، لا يتخيلون أن ثمة مشاعر لدى غير الإنسان، ولو تخيلوا لما ذبحوا العجل أمام أخيه من بني جلدته. وقد ساء يومي.
نظرت إلى بقية العجول، جميعها غارق في عذابه، مربوطا بقيوده السيكوباتية المريعة، لا طعام أو ماء، عجلي يصطلي بشمس الصيف الحارة، بطنه يعلو وينخفض مثل كلب يلهث. والبشر أصحاب الهدي ولا هم هنا، همهم السرعة، أن يذبح الجزار عجلهم ليأخذوا لحومها فيتقربون بها إلى الله! ويلتذون بمشويات قطع منها، لا ينتبه أحدهم إلى أن هديته إلى الله تلقى عذابا كبيرا، وجوعا وعطشا الله وحده يعلم مداه.
كلمت القائم على حظيرة الخراف، فقال إنه مسؤول فقط عن الخراف، قلت له العجول أيضا تجوع وتعطش، وأنك أمام الله مسؤول عن جوعها وعطشها، فقام سريعا، وأحضر طستا، وأحضر مياه، وأخذ ابني مصطفى يسقي عجلنا، الذي شرب حاجته وهو مقع لا يقدر على النهوض، فأخذت عضلات بطنه تهدأ، تقلل من انقباضها وانبساطها، والإنسانية لا تقتضي مني سقاية عجلي فقط، فكل العجول المحيطة عطشى، دار مصطفى بالطست، وسقى جميعها، في ذلك لم يحاول صاحب عجل مد يد العون، فالحقيقة الواضحة هي أن الواحد منهم لا يشعر بارتباط ما تجاه هديه، لا يشعر أنه إزاء كائن حي، العجل بالنسبة له مجرد كمية لحم، ثم لا يهتم بإن كانت كمية لحم جائعة أو عطشة.
ولم يكن لدي علف لإطعامها، محلات العطارة والأعلاف أغلقت للعيد، فجربنا إطعامها خبز الفينو، فرن العيش المصري أغلقت أيضا، والحمد لله أن أكل بعضها الخبز، فلما نجحت تجربة إطعامها خبز الفينو، ذهب مصطفى لشراء كمية تتبلغ بها العجول، وعندما فهم صاحب الفرن أنها للعجول الجائعة، منحه نصف جوال من كسر الخبز مجانا، منتظرا المثوبة من الله. وأظن أن صاحب هذا المخبز نال المثوبة من الله بأفضل من بعض أصحاب هذه العجول الذين دفعوا عشرات الآلاف أثمانا لها، لأن صاحب الفرن رحم وعظم هدية الله، فيما هم لم يفعلوا شيئا من ذلك.
ثم انتظرت طويلا، حتى بعد صلاة العصر، حين جاء دور عجلي، فإذا بهم يسحبون معه عجلا آخر، وفي الزحام الشديد حيث لا أحد يمكنه منع شيء، أو التنبيه لشيء، ألقي العجلان إلى الأرض بهمجية مفرطة، وذبحا سويا، لا بد أن عيونها تقابلت، والخوار الفزع أرعبها في لحظاتها الأخيرة.
ولم أفعل سوى أن جهرت بصوتي، فيما أضرب كفا بكف:
ـ أقسم بالله ما عندكم دين ولا رحمة.
وبدلا من أكون مطمئنا سعيدا بهديي، مرددا التكبير والأدعية، ملأني الغضب، إذ لا أتصور أن الله الرحمن الرحيم يقبل هذا الهدي المعذب المهان راضيا!
وأنا لست من المماحين الذين يرون في التقرب إلى الله بالأضاحي قسوة وعنف ضد الحيوانات، فسنة الله في مخلوقاته اقتيات بعضها على بعض، لولا هذا الاقتيات لفشلت دورة الحياة، وأن المماحين إياهم يأكلون لحوم مختلف المخلوقات كل يوم، أما محنهم في عيد الأضحى بالخصوص فله أسباب أخرى ليست هذه المقالة مجال عرضها، لكن مؤكد أن قسوة وجلافة وبلادة الجزارين، مع تواطؤ أصحاب الهدي بالعجلة، وعدم الصبر، وعدم الفهم لطبيعة الهدي، جميعها أشياء تمنح الفرصة لكل نَقَّاد مأجور، أو غير فاهم، ليتكلم في الأضحية الإسلامية بخبث وشر.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:
“إذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة”.
وإحسان الذبحة ليس فقط بحد شفرة السكين جيدا، ولا بمهارة التقطيع والتجزيء، ولكن بالإحسان للحيوان في أوقات ما قبل الذبح، خصوصا ذبائح الهدي، أن يعرض عليها الطعام والماء، أن لا ترى السكين بعيونها، أن لا تذبح في مشهد أشبه ما يكون بالإبادة الجماعية، أن تعامل بإحسان، تسحب إلى مكان ذبحها بترو وشفقة، تلقى إلى الأرض بخفة وتذبح بسرعة خاطفة، فهي كائنات حية تحس وتشعر، لا صخرة أو حجر.
كتب الله أن لا رحمة لمن لا يُرحم.
ولا هَدي.
كتبها _ اشرف الخمايسي
روائي مصري
Average Rating