كمال أبو عيطة الذي أعرفه
محمد حماد * يكتب:
عرفته طويلا قبل أن تتشرف الوزارة بوجوده بين أعضائها، ولم أقابله ولا مرة واحدة أثناء توزيره، ورأيته بعد الوزارة وقلت له هامسا : حمدا لله ع السلامة فرد مباشرة : آه يا أخي ، أحسن تقول لي : كفارة .
وهذا مقال قديم كتبته عن كمال الذي أعرفه لا مناسبة له اليوم غير أني شعرت أنه ظلم ممن كان يجب عليهم ان يكونوا مساندوه ومؤازروه ، وحسبه أنه ظلم حتى ممن دافع عنهم طويلا وهو ظلم لو تعملون عظيم…
أجمل ما في كمال أبو عيطة بساطته التلقائية، وأعظم ما فيه ولعه بخدمة الآخرين، يمشي في حوائج الناس كأنها حاجته، يبادر إلى معونة أي شخص بدون طلب منه، كأنه مكلف بقضاء حوائج البشر، وله في ذلك قصص تُروى، يعرفها كل الذين احتكوا به وتعاملوا معه، يشارك الناس أحزانهم قبل أفراحهم، إذا كنت معه في سفر فهو أول المبادرين إلى تحضير الأكل للذين معه، وإذا زاملته في سجن فهو أول الساعين إلى مسح دمعة محزون، وإذا كنت في كربٍ فهو أول من يبعث الضحك والسخرية من الحال التي أنت عليها، مرة صحوت في جوف الليل على صوت ضابط أمن الدولة يوقظني، وكنا نياماً في بيت أحد أصدقائنا، وما أن فتحت عيني، إذا بالضابط الكبير يبدو وكأنه وقع على كنزٍ مفقود فيصرخ: محمد حماد الشيوعي؟، وقبل أن أستوعب ما يجري من حول سريري إذا بكمال يطلق واحده من قفشاته وسط ذهولنا جميعا فيقول: إيه ده، أنت طلعت شيوعي وإحنا منعرفش؟، ابتسم أصدقائي جميعاً وكشرت أنا في وجهه، ولسان حالي يقول: إحنا في إيه وأنت في إيه؟.
قرأت الكثير مما كتب عن كمال أبو عيطة ولم استغرب هذا الوله الذي تحول إلى حروف محبة بل وعاشقة لظاهرة نبيلة من ظواهر حياتنا الوطنية، فأنا أعرف مصدر هذا الوله وأعرف أسبابه، ولست أدعي لنفسي معرفة خاصة بكمال أبو عيطة أفضل من معرفة الكثيرين به، لكني أعرف جيداً مصدر هذا الحب للفتى الذي كان من حظي أني تعرفت عليه عن قرب في أول سني الشباب.
لم أعرف أحداً تغلب على الضعف البشري كما فعل كمال أبو عيطة، فهو علَّم نفسه الجسارة، ودرب كل ملكاته على مقاومة ضعف الإنسان فيه، وظني أنه لم يتعلم ذلك لا في مدرسة ولا في كلية ولا حتى في خضم حركته النضالية، لقد تعلمها من ملازمته للناس، لأبسط الناس، للفواعليه والصنايعية، لعمال البناء، لهؤلاء الذين يعملون بكدٍ وتعبٍ على مدار النهار من أجل لقمة عيش شريفة، تعلم كمال من هؤلاء كيف يقهر ضعفه الإنساني، وهو على الحقيقة مثلهم، يفعلون ما لا يقدر عليه أحد، ولا يرون في ذلك ميزة تميزهم، يفعلونه كأنه الأمر الطبيعي الذي خُلقوا له.
لم ينفصل في يوم من الأيام عن أبسط الناس في الحي الذي ظل يقطنه طول حياته، عمل مع أبيه المقاول الصغير منذ نعومة أظفاره، وكان في نفس الوقت يرتقى في مدارج التعليم، وحصل على ليسانس الآداب في الفلسفة وليسانس القانون، وبقي طول الوقت يتعامل بتلقائية مع الأسطوات، حتى بعد ما تخرج من الجامعة عمل لبعض الوقت في الصنعة التي أتقنها وهو صبي صغير، وظل يحتفظ ربما حتى اليوم بعلاقاته بزملاء الصنعة، يتحدث معهم كواحدٍ منهم، ليس تواضعاً ولا تكلفاً، بل هي طبيعته التي لا يتصنعها، وذلك كنزه، وتلك أسطورته الحقيقية.
أستطيع أن أزعم أن وجود كمال أبو عيطة في قلب الحركة الطلابية ومن بعدُ في قلب الحركة الوطنية أعطاهما طعماً مختلفاً ومذاقاً حريفاً لا يستطيع أحد غيره على إعطائهما إياه، فقد كان ولا يزال نسيج وحده، لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد، أذكر كيف احتشدنا في مظاهرة تضم المئات من الطلاب ونحن نهتف وراء كمال خليل القيادي اليساري المعروف بصوته اللين هادئ النبرة: (مجلس شعب صباح الخير، دا انت رئيسك مليونير)، فإذا بصوت جهوري يملأ عنان السماء يهتف من خلفنا بقوة ووضوح كأنه الصاعقة: (مجلس شعب صباح الطين، دا انت رئيسك قط سمين)، قبل أن تعلو أصواتنا بالهتاف صفقنا لصاحب الصوت، لكلماته الصارخة، ولسرعة البديهة الحاضرة، وحملناه فوق الأعناق، واشتعلت المظاهرة حماساً منقطع النظير، وخلال دقائق تدفق طلاب كثيرون في نهر المظاهرة التي جابت الحرم الجامعي ووقفت عند أبواب الجامعة تدقها تهم بالخروج إلى الشارع، ومن يومها ولد نجم جديد في سماء الحركة الوطنية والقومية، نجم لا تحجبه عين الشمس.
* كاتب صحفي
Average Rating